الحقيقة المحمدية هي مقام ولاية محمد:
ولقد انكشف بالمعراج مقام ولاية محمد، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، الذي قال عنه هو: (لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها نبي مرسل، ولا ملك مقرب)، وهذه الساعة هي جزئية زمنية تدق حتى تخرج من الزمن، أو تكاد.. وهي الساعة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله (يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها!!).. فلقد كان النبي الكريم، لحظة الشهود الذاتي، هو هذه الساعة – الساعة التي تسع كل شيء.. هو مقام (الإمامة) على كل الوجود، أعلاه وأسفله (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، فإن (الإمام المبين) هو مقام الوسيلة الذي منه تنزل كل شيء، واليه يتطور كل شيء.. هو مقام (الرحمن): (الرحمن على العرش استوى)، والعرش هو المملكة الإلهية كلها، ملكوتها وملكها وعليه قام الإنسان الكامل (الحقيقة المحمدية)، وهو رأس سهم التطور الذي يجسد المطلق، فيقرب الوجود، والحياة من النقص إلى الكمال.. وعن ساعة تحقق نبينا بهذا المقام قال (لا يسعني فيها نبي مرسل، ولا ملك مقرب)، أي لا يسع علمي المستمد من المطلق كفاحا نبي مرسل، ولا إبراهيم، أو ملك مقرب، ولا جبريل.. محمد نبينا صاحب ثلاث مقامات: مقام الولاية، ومقام النبوة، ومقام الرسالة.. وعن هذه المقامات الثلاثة قال هو: (أوتيت ثلاثة علوم، فعلما أمرت بتبليغه، وعلما خيرت في تبليغه، وعلما نهيت عن تبليغه).. ومن العلم الذي نهي عن تبليغه علم الولاية، وهو كما قال عنه (إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيرى)، أو كما قال عن لحظة تلقيه (لا يسعني فيها نبي مرسل ولا ملك مقرّب).. ومن العلم الذي خيره في تبليغه علم النبوة، ومن العلم الذي أمر بتبليغه علم الرسالة.. وعن هذه المقامات الثلاثة قال أيضا (قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة)، فالشريعة هي الرسالة، والطريقة هي النبوة، والحقيقة هي الولاية (هي الحقيقة المحمدية).. ومحمد في رسالته صاحب شريعة فردية، لنفسه، هي السنة النبوية.. وهو في مقام نبوته متلق من الله بواسطة الملك جبريل،
وهو في مقام ولايته متلق من الله كفاحا، وقد سقطت وساطة جبريل.. ولقد ختمت النبوة في معني ما ختم الوحي الملائكي، باستقرار خبر السماء بين دفتي المصحف، فأنفتح بذلك الطريق للتلقي من الله، من القرآن، بواسطة العقل (المروّض المؤدب بأدب الشريعة وبأدب الحقيقة)، وهي النبوة المستمدة من القرآن، وللتلقي عن الله، من القرآن، بغير واسطة العقل – برفع حجاب العقل – وهي الولاية المستمدة من القرآن.. فإن القرآن الكريم هو كلام الله، منزلا من الذات الالهية، عبر المنازل السبع: الحي، العالم، المريد، القادر، السميع، البصير، المتكلم، وفي منزلة (المتكلم)، برز (كلام الله)، المقروء المحفوظ بين دفتي المصحف، في قالب اللغة العربية.. وعن هذا التنزل جاء في القرآن عن القرآن (حم* والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون* وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. فكلام الله لدي التناهي هو ذات الله، لأن الكلام صفته القديمة القائمة بذاته.. فإذا انجلت الحجب التي كسبناها بأوهامنا وجهالاتنا، والتي حجبت العقل عن القلب، استطعنا أن نستمع، وأن ننصت إلى الله يخاطبنا في القرآن، خطابا كفاحيا.. فخرجت أسرار القرآن، وهي أسرار الألوهية، من قلوبنا (التي ليس في سويدائها الاّ ذات الله)، فانعكست على عقولنا، فوعينا عن الله، وتأدبنا معه، الأدب الواجب من العبودية للربوبية، وذلك وفق علمنا بأسرار الألوهية.. وفي الحديث القدسي (ما وسعني أرضى، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن).. وقلب المؤمن إنما يسع الله سعة علم، لا سعة مكان، ولا سعة إحاطة.. ولذلك فإن القرآن حقيقته في الصدور، وليس في السطور: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)..
هذا هو التطور الروحي الذي أرست أسسه واقعة المعراج حينما تكشف فيها من أسرار ولاية محمد ما جعل حياة محمد إن هي الاّ مفتاح مغاليق أبواب الغيب – مفتاح مغاليق أسرار القرآن..