إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الإسراء والمعراج

السير الأفقي والسير الرأسي

استلال حسام النبوة من غمد الرسالة:


ومقام نبوة النبي محجوب بمقام رسالته، كما أن مقام ولايته محجوب بمقام نبوته.. والمعرفة بدقائق (المعراج) إنما تزيل هذين الحجابين..
والنبوة محجوبة بالرسالة بسبب التداخل بين شريعة النبوة وشريعة الرسالة.. وذلك لخفاء النقطة التي يقف فيها تكليف الأمة ويستمر تكليف النبي.. فالصلاة المكتوبة مفروضة على النبي وعلي الأمة، ولكن تكليفه قد زاد على تكليف الأمة بصلاة الثلث الأخير من الليل التي كانت فرضا عليه، والتي لم تكن في حق الأمة الاّ من قبيل التطوع.. والصيام المكتوب فرض على النبي كما هو فرض على الأمة، ولكنه قد كان مخصوصا بصيام المواصلة (صيام الثلاثة أيام المتصلة)، وقد نهاهم عنه.. والركن التعبدي الأصلي في الزكاة نبوة (ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو)، ولقد تم التنزل من الركن التعبدي الأصلي إلى الركن التعبدي الفرعي، وهو الزكاة ذات المقادير، وذلك لأنه الأمة لم تكن تطيق ذلك الركن التعبدي الأصلي.. ولقد كانت عبادته، كلها إنما تختلف عن عبادتهم، من حيث الجوهر، وإن تشابهت معها في المظهر. كانت صلاته حضوراً مع ربه، به تتم طمأنينة النفس، حيث قال (وجعلت قرة عيني في الصلاة). كانت عبادته صلة بينه وبين الله يسعى لأن يكون فيها كله لله، وكانت معاملته صلة بينه وبين خلق الله، هي المحبة، وهي الحكمة.. ومن الحجب تلك التي القتها الرسالة على النبوة سنة العادة التي كان يساير فيها النبي الكريم عادات مجتمعه، مما لا يتعارض مع أغراض الدين، مثل المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، والهيئات.. ومن تلك الحجب أيضاً استفاضة أحكام الرسالة في القرآن، واستفاضة أحاديث الرسالة، وتواتر رواياتها وهي تنظم حياة ذلك المجتمع، بالتشريع، والتفسير.. على قاعدة (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم). ومن تلك الحجب أيضاً قيامه بواجب الوصاية الرشيدة على تلك الأمة، ومنه حملها على الدخول في الإسلام بالسيف، مع أن الذي أهله لهذا الواجب – واجب الرسالة – تأدبه مع ربه بأدب العبودية – وهو واجب النبوة – وذلك بنزوعه الطبيعي عن التسلط.. ومع ذلك ظل التأدب الإلهي له يتسامى بواجب الوصاية عن رغبة الوصاية، بمثل قوله تعالي: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا).
والنبوة والرسالة قد تردان أحياناً منضويتين في سياق واحد من الأحاديث النبوية.. فقد قال (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم قال: خذ العفو وأمر بالعرف، واعرض عن الجاهلين) فإن صدر الحديث نبوة، وعجزه المبتدئ (بثم) رسالة.. ومن أحاديث الرسالة، وهي مستفيضة: (كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر، ألا فزورها)، ومن أحاديث النبوة، وهي ليست مستفيضة (ان الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار، وان الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه)..
وباستلال حسام النبوة من غمد الرسالة تبرز السنة النبوية، وهي مستوى عمله في خاصة نفسه، منمازة عن الشريعة، وهي مستوى عمل الأمة.. والوقت اليوم إنما هو لإحياء السنة، لا أحياء الشريعة: (بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا، فطوبي للغرباء، قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها!!).. واحياء السنة هو جعلها شريعة عامة لكل الناس، بعد أن كانت شريعة خاصة بالنبي.. لقد كانت السنة (النبوة) غريبة في الأمة الماضية لخفاء حسامها في غمد الرسالة، مما عبر عنه اويس القرني لأصحاب الرسول الكريم بقوله (ما رأيتموه الا كالسيف في غمده).. أما غرابتها فهي الأمة الحاضرة فستصحب استلال حسامها من غمد الرسالة – بإحياء العمل بالسنة.