خــاتمـــة
الصلاة هي (المعراج) الذي يعبر به المصلي المجود طبقات العقل الباطن (درجات النفوس) إلى حيث يحقق كمال حياة الفكر وكمال حياة الشعور – الفكر الجامع، المحيط، الموحد لمدركات الحواس، والشعور الشديد الحساسية، المنتشر في كل ذرة، وفي كل خلية، من خلايا الجسم.. وذلك بعد أن يكون الفكر ضعيفاً، وقاصراً، لا يقوي على تسيير، واستئناس حيوانية نفسه، والنزوع بها عن الرغبة إلى الواجب، وبعد أن يكون الشعور خافتاً، بعيداً في أغوار النفس، لا ينبثق منه إلا أحساس الحواس الضعيف المنحصر في مناطق محددة من الهيكل البشري.. وقيمة الصلاة الحقيقية هي أن تملأ هذا الهيكل البشري بالحياة الكاملة حتى لا تبقي منه قشرة ميتة، فتحي هذا الجسم الذي تحجر، فتقوقعنا داخله، ونحن مروعون بالخوف الذي أملاه الجهل بحقيقية الوجود ومصيره..
الصلاة تسعى لأن تحصر أحدنا في اللحظة الحاضرة، فلا يخاف ولا يحزن (ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم، ولاهم يحزنون) – وفي ذلك إشارة إلى مقام (الولاية)، الذي هو مقام (الحقيقية المحمدية)، وإلى حظوظ المصلين المجودين من هذه الولاية.. وهم مشغولون بأداء واجبهم المباشر، في لحظتهم الماثلة، لا يخافون المستقبل، ولا يحزنون على الماضي، ذلك بأن المستقبل والماضي وجودان وهميان سولهما وهم عقولنا، وخوفها.. وما الوجود الحقيقي إلا اللحظة الحاضرة.. فمن تحرر من خوف المستقبل، وحزن الماضي، ورد معين الحياة الكاملة، ووجد الوجود الحقيقي..
وهيكلنا البشري هو نفسه هيكل الصلاة، لأن صلاة أحدنا إنما هي تعبير عن حركته الداخلية، وتطويره، وتنظيمه لها، فإذا نفخ المصلي روح الصلاة في هيكل صلاته، بأن كان له فيها قدر من الحضور، قل أو كثر، أخذت جرثومة الحياة الكامنة فيه، تدب في هيكله البشري، وتنتشر.. ومطلوب المصلي أن يملأ هيكل الصلاة كله بالحضور حتى تصبح صلاته (ذكر الله) المعني في قوله (أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر).. وذكر الله هو الصلاة الحقيقية، وهو الحضور مع الله بكلية الإدراك.. وهو الصلاة التي فرضت ليلة المعراج، بعد رفع حجاب الفكر.. وحجاب الفكر إنما يحجبنا عن اللحظة الحاضرة (الشهود الذاتي) لأنه إنما يسوق إلينا وهم الماضي والمستقبل، وهو متأثر بالخوف العنصري، أو الخوف العرفاني..
وفي معيشة اللحظة الحاضرة يسقط الخوف.. قال تعالي لموسى (يا موسى لا تخف، إني لا يخاف لدي المرسلون)، وقال تعالي لنبيه محمد، عليه ا لصلاة، والسلام: (يسن، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين * على سراط مستقيم).. والمرسلون على سراط مستقيم هم الذين حُرروا من الخوف فأرسلوا على خط الاستقامة (المعيشة في اللحظة الحاضرة)، الذي يلقى فيه المصلي ربه (تخلقوا بأخلاق الله ان ربي على سراط مستقيم).. فمن ملأ هيكله البشري بصلاته، فكان على تلك الاستقامة صار كل هيكله حياة كاملة، مطلقة الكمال، وهيهات!! فإن هذه الحياة الكاملة إنما هي حظ (الله) – الحقيقية المحمدية اللاهوتية – التي هي مما يلي المطلق مطلقة، ومما يلي القيد، (أحدية صمدية) (قل هو الله أحد * الله الصمد).. أي، بمعنى عرفاني، لا غيرية فيها، وبمعنى سلوكي، لا يخالف ظاهرها باطنها، والمصلي لا ينفتح أمامه الطريق حول هذه القيمة إلا أذا اخذ يقرب ما بين فكره، وقوله، وعمله، وفيما بين خلوته، وجلوته، وفيما بين سريرته، وسيرته.
والإنسان الكامل (الحقيقية المحمدية) هو المتفرد بالأصالة في معني ما هو المثل الأعلى للحياة الكاملة المنفتحة على الكمال المطلق، وسيبقي سرمدياً هو المثل الأعلى.. وحظ المصلي من هذه (الأصالة) هو السير السرمدي، بصلاته، مجوداً تقليد النبي الكريم في هذه الدنيا متأسياً به في البرزخ وفي الآخرة..
(فعبادة أهل البرزخ، وأهل الجنة هي الفكر والذكر، وبها يتم لهم الترقي) وذلك لبلوغ هذا المثل الأعلى، (الحقيقية المحمدية) وهيهات!! فإن مقام الإنسان الكامل على قمة هرم الخلائق إنما هو مقام (الواحد) – مقام (الواحدية) التي تنزهت عن المشابهة.. وعمله السرمدي تقييد المطلق إنما يجعله لدي سائر الخلائق في حكم المطلق..
فهيكل الصلاة هو بهذه السعة التي يعجز العقل عن الإحاطة بها.. البداية في ملء هيكل الصلاة إنما تبدأ بمجرد المصلي الانحصار في الصلاة، بتركيز الفكر في قرآنها، وفي حركاتها، وبمجرد كف الأذى – أذى اليد واللسان عن الناس، وبمجرد محاولته ألا تكون له من المخلفات ما يخفيه من الناس، وهو يستهدف أن تكون صلاته حياته.. هذه هي بداية الأصالة، ثم لا يكون لكمال تحقيقها نهاية.. لأن نهايتها عند الأصيل ا لوحيد، المتفرد بالأصالة (وان إلى ربك المنتهى)..
ثم أن للمصلي المجود حظاً من هذه (الواحدية)، هو حظه من الشريعة الفردية.. والشريعة الفردية هي معيشة المصلي وفق علمه.. فإذا زادت صلته (حضوره) في صلاته، أوتي علماً فردياً ذوقياً بأسرار هذه الصلاة التي لا تحد، فعمل بهذا العلم.. هو بذلك على شريعة فردية، تزيد بإتقان توحيده لفكره وقوله وعمله.. هو على شريعة فردية داخل إطار التقليد النبوي – داخل هيكل الصلاة النبوية الذي لا يحد.. وهذه أصالة داخل (الأصالة)، وعلم داخل (العلم).. ذلك هو الطريق أمام المصلي المجود نحو التلقي الكفاحي عن الحقيقية المحمدية، والذي يحصل به من العلم ما يكشف الأسرار الدقيقة في الصلاة، والجوانب الخفية من التقليد النبوي، فترتفع الفردية إلى مستوى أدق، وتزداد الحياة (الشعور)، في الهيكل البشري، ويستقيم السير نحو الحياة الكاملة.. حياة الإنسان الكامل..
هذا هو المنهاج الفردي للتحرر من الخوف، وللتخلق بالحياة الكاملة.. أما وسيلة المنهاج الفردي فهو المنهاج الجماعي الذي يقوم، أيضاً، على حقيقة توحيدية هي أن الناس اشراك في خيرات الأرض، أشراك في السلطة، مما يوجب الاشتراكية، والديمقراطية، والمساواة الاجتماعية.. وهذه وسائل في المنهاج الجماعي، لتحرير الفرد من الخوف على رزقه، وعلى حريته، وعلى كرامته، حتى يتفرغ لتحرير نفسه، بالمنهاج الفردي، من الخوف العنصري.. ومن ههنا الدعوة إلى بعث أصول القرآن (السنة) القائمة على الحرية (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية) بتطوير التشريع إليها، ارتفاعاً عن فروع القرآن "الشريعة" ودعوتنا نحن الجمهوريين – هي تمهيد الأرض لمجيء الكمالات الموعودة، المتمثلة في الإنسان الكامل الذي يجسد الحقيقة المحمدية (المسيح)، وفي جنة الأرض التي يقيمها في معني ما يملأ الأرض عدلاً، وفي التحقيقات الكبري التي تتم للمصلين المجودين من شرائع فردية، وأصالات، تحت ظل تفرد الحقيقة المحمدية بالأصالة.
هذه هي القيم العرفانية والسلوكية التي تعطيها واقعة (الإسراء والمعراج).. والله نسأل أن يهدينا معارجه، وأن يوفقنا إلى المعراج إليه، وأن يجعله عاماً مباركاً ببركة (المعراج)..