الإسراء والمعراج وثالوث التطور
(الحياتي) و(الروحي) و(الزوجي)
أن واقعة الإسراء والمعراج إنما تمثل الأطوار الثلاثة للتطور الحياتي – وذلك بحركة الاسراء الأفقية، وحركة المعراج الرأسية، ثم حركة الشهود الذاتي الأفقية.. ففي التطور (الحياتي) يمثل الإسراء، وهو حركة أفقية، طور الحيوانية، الذي يتميز بالسعي إلى التعبير عن الشهوة، وهو حياة الشعور في سذاجتها.. ويمثل المعراج، وهو حركة رأسية، طور البشرية، وقد بدأ بظهور العقل الذي أخذ يشكل ضابطاً للشهوة، بفعل الخوف من العقوبات التي تقف في طريق التعبير عنها، وذلك هو بداية حياة الفكر.. وفي هذا الطور انفتقت النفس البشرية بعد صمامتها بين عقل واع وعقل باطن.. ثم يجي طور الإنسانية الذي ينضج فيه التطور الرأسي العقلي فتفضي حياة الفكر إلى حياة الشعور الكاملة، فتعود حركة التطور لتكون رأسية أفقية في تبادل واتساق.
أما التطور (الروحي) فيمثل الأسراء، كحركة أفقية، حالة الفرد البشري في غفلته، وفي انفلاته من الالتزام الأخلاقي، وفي استرساله مع شهواته وبداوته، مما يسمي (النفس الإمارة بالسوء)، فإذا دخل الفرد طور الالتزام بالصلاة والصوم أخذت النفس الصماء، المتوحدة على الاستجابة لدواعي الشهوة، في الانفتاق تحت أثر الكبت الديني المبرر والمطلوب.. وبدأ التطور الرأسي العقلي، وأخذت النفس تتأرجح في حركتها بين الواجب والرغبة، وهو ما يسمى (النفس اللوامة).. ثم يأخذ العقل يقوى شيئاً فشيئاً في تسيير الرغبة في اتجاه الواجب، وذلك عبر مقامات النفس الملهمة، والنفس المطمئنة، والنفس الراضية، والنفس المرضية، حتى يدق هذا العقل فيفضي إلى غايته، فيلغي نفسه، فيتم كمال حياة الشعور، حتى تجئ حياة الفكر، بعد ذلك وهي أكمل، وأسرع أفضاء إلى حياة الشعور، فتعود للنفس صمامتها بفعل التوحيد (كما بدأنا أول خلق نعيده) وكما قال الصوفية (النهاية تشبه البداية، ولا تشبهها)..
وهذه الحركة الرأسية، والحركة الأفقية، في التطور (الحياتي) وفي التطور (الروحي) إنما هي موجودة، وبصورة آصل، وأعمق، في التطور الزوجي. فالزوج.. يمثل حياة الفكر (الحركة الرأسية) والزوجة تمثل حياة الشعور (الحركة الأفقية)، ويمثل لقاؤهما الزوجي إفضاء حياة الفكر إلى حياة الشعور.. ذلك بأن لقائهما هذا إنما يؤدي بكل منهما إلى الاستغراق في اللحظة الحاضرة، والتحرر من كثافة الزمن، المتمثلة في الانشغال الشديد بالماضي والمستقبل، وبه يحصل التوقف الفكري، والاطمئنان، وانبعاث طاقة المحبة المكنونة في سويداء القلوب.. فإذا كان الزوجان عابدين مجودين كان لهما في هذا اللقاء حظ من الشهود الذاتي، يزداد بازدياد تجويد عبادتهما.. حتى يكون من لقائهما الزوجي، في نهاية المطاف، حياة الشعور الكاملة المشتركة، التي تثمر لكل منهما كمالاً في فكره وشعوره.. فإن الزوجة إنما هي انبثاق نفس الزوج عنه خارجه، فهي آية آفاقه، وهو آية آفاقها.. وفي لقائهما العف، النظيف، والذي هو ثمرة عبادتهما المجودة تفضي آية آفاق كل منهما إلى أية نفسه.. فيباشر كل منهم نفسه الكاملة (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أو لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد؟؟) فينفتح قلب كل منهما على عقله، أثناء اللقاء الزوجي، وفي قمته، ليفضي إليه بالواردات، والأسرار والبشائر، فتزيد علاقتهما، وتتسع حياتهما.. وهكذا تصبح الحياة الزوجية بوسيلة الصلاة، هي نفسها معراجاً للشهود الذاتي..
وهذا هو السر في أن النبي الكريم قد قرن بين النساء والصلاة في حديثه المشهور (حبب إلى من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة..) ومعلوم العلاقة بين النساء والطيب. فلكأن حاصل الأمر يرجع إلى النساء مرتين: مرة بذكرهن صراحة، ومرة بذكر قرينتهن – الطيب.
والمعراج بالصلاة إنما هو تطور في درجات النفوس التي هي طبقات العقل الباطن – تطور من النفس الإمارة بالسوء (النفس الحيوانية) التي ليس لها اعتبار للزمن – ليس لها خيال أو نظرة لعاقبة الأمور في المستقبل، إلى النفس اللوامة (البشرية) التي بدأ يدخل في حسابها اعتبار للمستقبل، وذلك بظهور العقل، وبانقسامها إلى نفس كابتة، ونفس مكبوتة، حتى يضطرد التطور إلى النفس الكاملة التي يدق فيها الفكر حتى يلغي نفسه، فيخرج الإنسان أو يكاد من رق الزمان، فيعود إلى التوحد والصمامة، مرة أخري.. (وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).. وعبارة الحيوان هنا إنما هي للمبالغة في الحياة وهي حياة الشعور الكاملة، وسبيلها العلم (لو كانوا يعلمون)..
وهكذا فإن (المعراج) قيمة حياتية، علمية، بها تكتمل حياة الفرد البشري وبها يقوى فكره..