إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الإسراء والمعراج

السير الأفقي والسير الرأسي

الصلاة والقرآن والمعراج:


الصــــلاة:


ان صلاة محمد إنما هي أكمل الصلوات بالنسبة لجميع الأديان، فإن كل صلوات الأنبياء والرسل السابقين للبعث المحمدي إنما كانت اقساطاً من هذه الصلاة الكاملة، نزلت حسب حكم الوقت، حتى اكتملت، فتوجت بصلاة محمد، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. ذلك بأن هذه الصلاة قد فرضت في حضرة وحدة – وحدة الذات المحدثة في مقابل الذات القديمة.. ولذلك فهي أكمل أعمال التوحيد.. وهذه الصلاة إنما تقوم على ركعات، لكل ركعة سبع حركات، تشير إلى السماوات السبع التي فرضت من فوقها.. وفي كل سماء ملائكة يؤدون حركة من حركات الركعة السبع.. فالمصلي المجود إنما يعرج بكل ركعة عبر السماوات السبع، وبذلك يحقق قدراً من صلاة الصلاة التي فرضت بعد السماء السابعة.. وكل ملك يشارك المصلي في صلاته إنما هو له على الترقي في مقامات القرب.. ثم أن المصلي، بذلك، إنما يصل عالم الملك بعالم الملكوت، وهو معني خلق الصلة بين المصلي والمطلق.. ثم أن المصلي حين يرفع يديه بحذاء منكبيه، وفي مستوى رأسه، ويهوي بها إلى جنبيه في تكبيره الإحرام كأنما هو يحاول بحركة حسية إهباط الملكوت إلى الملك – وهو حين يسجد بوضع رأسه على الأرض – ورأس الإنسان ملكوته – هو سماؤه – فإنما هو أيضاً يسعي سعياً حسياً وروحياً إلى إنزال الملكوت إلى الملك وذلك بتجسيد كمالات الملكوت، ولذلك قال النبي )أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد(، وهو في سجوده، وبوضع أنفه على الأرض إنما يظهر التواضع لله، ولخلقه، وبوضع جبهته على الأرض، بعد وضع أنفه، إنما يستدر العلم من عين رأسه، والعلم ثمرة التواضع..
والصلاة تختلف بين الرسالة الأولي "الشريعة" والرسالة الثانية "السنة" اختلاف ما بين الشريعة والسنة.. فمن أراد أحياء السنة اتخذ قيام الليل فرضاً، لا تطوعاً، وجعل لصلاة معراجه حظاً دائما وزائداً من صلاة الصلة، وذلك بزيادة حضوره فيها، واتخذ "الصلاة الوسطى" المعاملة من (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فسعى لتكون صلاته حياته..
وبانفتاح صلاة تقليدنا على الأصالة، بمعنى إدخال الحضور في صلاتنا، تتحقق ثلاثة أمور هي في غاية القيمة السلوكية والعرفانية: أولها ان الأصالة هي مطلوب كل عابد مجود بمعنى ما هو مشغول بتجويد صلاة التقليد، وبإدخال روح الأصالة فيها، لا بمعنى الاشتغال بها كصنم يمني نفسه ببلوغه، من دون عمل جاد في تجويد التقليد.. وثانيها أن الأصالة ليست نقطة بعيدة أمامه تبلغ بقفزة، أو تحقق في المستقبل، وإنما هي مساحة لا نهاية لها، ولكن بدايتها إنما هي دائماً تحت أقدامنا حيث وضعنا الأقدام على طريق تجويد التقليد.. وثالثها أن الدنيا والآخرة عالمان متصلات متداخلان، والأعمال إنما لهما معاً وفي نفس الوقت، فما لم تتحقق ثمرته من هذه الأعمال هنا إنما يتحقق هناك، ومن هذه الأعمال الصلاة.
والصلاة في الإسلام لا تستمد من العقيدة وإنما تستمد من العلم – من الحياة قبل ظهور الإنسان، وبعد ظهوره – تستمد الصلاة من مرحلة المادة غير العضوية والمادة العضوية قبل ظهور العقل، ومن مرحلة البشرية التي بدأت بظهور العقل فارتفعت عن الحيوانية، ومن مرحلة الإنسانية التي يكتمل فيها العقل "الحاسة السادسة"، ويكتمل فيها القلب "الحاسة السابعة".. والصلاة بما إنها منهاج لتوحيد الفكر والقول والعمل "لأنها هي ذاتها قول وفكر وعمل، في وقت واحد" إنما تفضي إلى توحيد القوى الإنسانية: العقل والقلب والجسد، فيحقق الإنسان انسانيته التي يرتفع بها فوق بشريته المتأثرة برواسب حيوانيته..
الصلاة منهاج لفض الكبت الذي سببه الخوف، والذي تسبب في انقسام البنية البشرية بين عقل واع، وعقل باطن.. وبالصلاة يتم استئناس الوحش الرابض في النفس البشرية، والموروث من عهد الحيوانية، وبغير هذا الاستئناس لا تحقق إنسانية الإنسان.

المعراج والقرآن:


القرآن هو كتاب الولاية المحمدية، وهو قصة النفس البشرية في تنزلها من النفس العليا "النفس الكاملة"، إلى أسفل سافلين "أبسط صور التجسيد التي تمثل اهباط آدم من الملكوت إلى الملك بسبب الخطيئة"، كما يمثل الارتفاع والتطور، من أسفل سافلين إلى أعلى عليين – إلى الحقيقة المحمدية.. ولذلك فإن القرآن قد انبثق من الحقيقة المحمدية (الله) – من نفس محمد الكاملة إلى نفسه الراضية.. من قلبه إلى عقله.. ولقد وجد جبريل أنه يأتي بالقرآن إلى محمد (من قبة عند ساق العرش)، فوجد أن فيها محمدا (الحقيقة المحمدية) فقال (منك وإليك).. لقد شهد محمد حقيقته هذه في معراجه، فقال (رأيت ربي في أحسن صورة) والوحي إنما يتم بتوقف عقل محمد، وبروز قلبه، وبروز الحقائق من قلبه، حتى إذا عادت للعقل وظيفته في التلقي تلقى حقائق القلب قرآناً.. وما جبريل إلا وسيط لتحقيق هذا الانبثاق الذاتي.. والمعراج أيضاً إنما يحكي الترقي من النفس الراضية "التي هي جماع وتطور النفوس السابقة لها" إلى النفس الكاملة، ثم رجوعها منها إلى النفس الراضية حتى تسير بها على مكث، لتحقيق هذه الكمالات في الدم واللحم بمنهاج المعراج اليومي.
والذات التي هي القرآن هي الذات المحمدية (الله)، إذ أن الذات الصرفة المطلقة فوق القرآن لأنها فوق العبارة وفوق الإشارة.. وأبلغ إشارة إليها إنما هي الذات المحمدية "الحقيقة المحمدية".. ولذلك فالقرآن إنما هو قصة النفس الإنسانية في صدورها من الذات، وفي تجسيدها في أول مراتب القيد من الإطلاق (الحقيقة المحمدية) وفي تنزلها إلى مراتب الوجود، في أسفل سافلين، ثم في صعودها منه إلى النفس السفلى (النفس الأمارة) ثم إلى النفس العليا (النفس الكاملة) ومن ههنا القرينة بين الصلاة والقرآن، فالصلاة صورة حركية لتطور النفس البشرية، والقرآن صورة لفظية لهذا التطور .. وهذا وذاك إنما هو المعراج.