إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الإسراء والمعراج

السير الأفقي والسير الرأسي

المعراج إلى الحقيقة المحمدية:


لقد تم لمحمد نبينا، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، بالمعراج عروجه من عالم الملك، وهو عالم الأجساد، إلى عالم الملكوت، وهو عالم الأرواح – عروجه من نفسه إلى نفسه، من نفسه الراضية إلى نفسه الكاملة – عروجه من شريعته إلى حقيقته، وهي الحقيقة المحمدية.. فعندما وصل جبريل بمحمد، في المعراج، عبر السموات السبع، إلى سدرة المنتهى، توقّف جبريل، فتقدّم محمد، وحده، وترا، بعد ان كان مشفوعا بجبريل، فشهد الذات الالهية.. وهو ما عبر عنه هو بقوله: (ثم زج بي في النور) – وهو نور الذات الالهية.. حيث فنيت الذات المحدثة في الذات القديمة.. وجبريل إنما كان تجسيدا لعقل النبي الكريم خارجه – جبريل الملك كان من آيات الآفاق بالنسبة للنبي الكريم.. وكان الإسراء والمعراج بالجسد، والعقل والقلب، معا حيث ارتفعت ذبذبة الجسد (فتروحن) حتى صار منسجما مع تلك البيئة الروحية.. وسدرة المنتهي إنما تمثل منتهي إدراك العقل، أو منتهي الزمان والمكان.. ولقد تجاوزها النبي، في معني ما خرج من الزمان والمكان.. أو كاد، فشهد من لا يحويه الزمان ولا المكان.. وتوقّف جبريل إنما يدل على توقّف الفكر – التوقّف الفكري – او ارتفاع حجاب العقل.. فقد توحّدت ذات النبي، فصار كله قلبا (فؤادا)، والي ذلك أشار القرآن الكريم بقوله (ما كذب الفؤاد ما رأى)، وأشار هو بقوله (ليلة عرج بي انتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله) – رأي ذات الله.. وفي هذا المقام اتصف النبي بقوله تعالي (ما زاغ البصر وما طغى)، أي ما أشتغل الفكر بالماضي، ولا بالمستقبل – اي دقّ الفكر حتى ألغي نفسه، او كاد.. فعاش النبي الكريم حظا عظيما من الوجود الكامل الذي لا يتوزعه الوهم بين ماض قد انقضى، ولن يعود، ومستقبل غائب لمّا يحن حينه.. وهو مقام الاستقامة التي هي المعيشة في اللحظة الحاضرة.. واللحظة الحاضرة هي الزمن الحقيقي، فمن عاشها تحرر من أكبر ما يسترق الإنسان فيستعبده، فينقّص عبوديته لله، وهو الزمن.. ولقد تحرر محمد، في المعراج، من الزمن، أو كاد، فتحقق بالعبودية لله، حيث توقف فكره، وهو ملكة الإدراك الشفعي (التي لا تعرف الأشياء إلاّ بأضدادها) وتقدم قلبه، وهو ملكة الإدراك الوتري (وهي وحدها التي تشهد الذات الالهية التي لا ضد لها).. ولقد عرج محمد من مقام التعدد، إلى مقام الوحدة – إلى مقام (الواحدية)، وهي التفرد الذي لا يشبهه شبيه، والي مقام (الأحدية)، وهي السلامة من الأغيار.. ومما رشحه لمقام العبودية هو استعداده له، فإنه لم يطلب المعراج، ولم يطلب الشهود الذاتي، وذلك لرضائه بربه، وبسيره خلفه، فلكأن الشهود الذاتي قد بدأ عنده بهذا الرضا، ثم توّج بالمعراج.. ولذلك جاء وصفه بالعبودية: (سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير).. تحقق بالعبودية، فآتاه الله صفات الربوبية، وهي (السميع البصير)..
والمقام الذي قامه النبي الكريم هو المقام الذي باشرت فيه الذات المحمدية الذات الالهية. هو مقام حقيقة محمد (الحقيقة المحمدية)، أو (المقام المحمود) الذي حكي عنه القرآن بقوله (فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا).. هذا المقام هو مقام الوسيلة الذي ليس بينه وبين الذات الإلهية مخلوق، وهو بين هذه الذات وجميع الخلائق.. فهو أول قابل لتجليات الذات الإلهية المطلقة – هو قيد الذات المطلقة.. هو المقام الذي يقيّد (يجسّد) في كل جزئية زمنية من المطلق، ما يزداد به، هو علما، وكمالا، وما يطور به الوجود نحوه، علما، وكمالا.. هو الاسم الأعظم (الله)، الذي تتنزل اليه الذات الإلهية، أول ما تتنزل، لتعرف.. ثم من الاسم الأعظم (الله) يتم التنزل إلى الاسماء، والصفات، والأفعال.. فلكأن الاسم الأعظم (الله) إنما هو اسم الذات المحدثة، وهي الإنسان الكامل (الحقيقة المحمدية)، وما هو في حق الذات القديمة الاّ مجرد إشارة، لأن هذه الذات فوق الاسم وفوق الصفة، وفوق الإشارة.. وهي تتنزل من صرافتها في أول مراتب القيد فتنزل إلى مقام الحقيقة المحمدية.. وعن هذا التنزل جاء في الحديث القدسي (كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني) – أي بتنزّلي إلى مرتبة الاسم الأعظم عرفوني، لأن منه التنزل إلى الاسماء، والصفات، والأفعال، والتي أبرزت الوجود.. وعن مقام الحقيقة المحمدية، مقام الوسيلة، قال محمد في حديث جابر الأنصاري: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر).. و(نور نبيك) اي حقيقة نبيك.. محمد في المعراج، إنما قام مقام حقيقته.. وهو المقام الذي منه انبثقت كل مراتب الوجود، الملكوتية، والملكية، ومنه جاء الملأ الأعلى والملأ الأسفل، ومنه استمدت أنوارها جميع النبوات، والرسالات، والولايات..
والحقيقة المحمدية ليست مطلقة، وإنما هي منفتحة على الأطلاق تقيد منه، كل حين، ما يطيق الوجود من تجليات، ثم يظل الإطلاق في إطلاقه..
هذا المقام إنما هو مطلوب الملأ الأعلى، والملأ الأسفل، وعنه قال النبي الكريم: (إن الله احتجب عن البصائر، كما أحتجب عن الأبصار، وأن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه).. والملآن إنما يطلبانه بمعنى ما يتطوران نحوه، بما يجسده من كمالات المطلق التي هي ميراث الملأين، وبمعنى ما يفيض عليهما من تجليات الذات الإلهية، إذ (كل يوم هو في شأن).. فالملآن يطلبان هذا المقام ليعرفا صفاته، وهي صفات إلهية، وليتخلّقا بها، فيعيرهما علمه المستمد من العلم المطلق.. واسماء الله الحسني إنما هي، أساسا، صفات الإنسان الكامل (الحقيقة المحمدية)، وأعظم اسمائه وصفاته هي الإنسان الكامل.. فالإنسان الكامل هو تنزل الذات إلى مقام التجسيد، هو مثلها بمعنى ما هو تجسيدها.. ولكن ليس مثل هذا الإنسان الكامل شيء (ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير)..
هذا هو المقام الذي قامه نبينا محمد بالمعراج، وهو مقام الوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، المعني في الدعاء (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وأبعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد)..