هي أدت عن شعبها الدين يارب وللحق في الشعوب ديون
رفعت طرفها إلى الله والأدمع في خدها رجاء حزين
ليس تشكو إلى سواه لقد أعرض سودانها وقل المعين
أين محمودها الذي دفع الضيم؟ أللقيد في يديه رنين؟
عربي يثور للعرض والدين ولكنه الغداة سجين
ياخديني الذي يحجبه السجن وللشوق إن حجبت عيون
أنا ألقاك في ضميري وفي البيعة يلقى بها الإله اليمين
أنا ألقاك في الجهاد الذي يعذب فيه الردى ويسلو الحزين
(من المنبر في مسجد رفاعة انبعثت الصيحة وخرج المسلمون كالمسلمين الأوائل في لحظة إلهية، يندفعون إلى الكافر، ولقيهم هذا خلف صف من العساكر وانطلق الرصاص، وتقدم الرجال يمشون على خطى محمود)..
يا صاحبي والسجن فرق بيننا زمنا على قلبي الوحيد طويلا
أنا في الحياة وإن سعيت مقيد وبقيت أنت بكوبر مغلولا
دافعت عن حسب الكرام ونجرهم لما رأيت حياءهم مبذولا
ما السجن؟ هل مسخ الرجال أعزة والغمد هل أكل الحسام صقيلا؟
الليث في حلق الحديد قرينه أسد أحاط عرينه وشبولا
إن لم تكن إلا القيود فإنها أفق وتكبر أن تعيش ذليلا
محمود يا ابن محمد لك أسوة أوعيت محنة يوسف تأويلا
وطن وهبت له الشباب منضرا ورأيت أجمل ما وهبت قليلا
بات الرجال على الخيانة والخنى وجعلت قيدك للوفاء مقيلا
الفجر منتظر حداءك صافيا بهدي السماء ونورها مشمولا
تُلقي البلاد إلى يديك زمامها بطلا يعود بفخرها موصولا
فردا على آي النبي وشرعه عدلا يقيم على البلاد عدولا
وهو الأمين وسوف يسأل معجب أتراه يبعثه الرسول رسولا؟
ويمضي شاعرنا في هذه القصيدة الطويلة إلى أن يقول:
قلبت يا وطني السيوف كثيرة حتى وجدت حسامك المأمولا
اُنظر حسامك ذو المضاء محجب في السجن يبرق حده مصقولا
محمود يلمع في عماية كوبر مثل الهلال وضاءة ونحولا
الله طهر أصغريه ومده ظلا على أهل الحقوق ظليلا
الصائم القوّام بين قيوده يتلو الكتاب منزلا تنزيلا
خشعت له من كوبر أنحاؤها وتسمعت في ليلها ترتيلا
مسحت تلاوته على آثامها فبكت هناك متابها مجهولا
محمود برأك العليم من الهوى وأحق فيك على الحياة دليلا
الفجر أنت على النفوس ولم يكن بسواك نور هداية مكفولا
أنت الغياث لموطن أبناؤه تركوه بين عيونهم مخذولا
أنبتّ في النهر البطولة إنه كالنهر في خلد القرون الأولى
(أما بعد ، فعندما قيّض الله للبلاد فكرة المؤتمر استجابت لها والتفت حولها فدرج المؤتمر مرعيا مرموقا، وانخرط الخريجون بزمامه في حماس باد، وأمل عريض.. فدعا الى اصلاحات جمة، فأصاب كثيرا من النجاح ، ووفق بوجه خاص، في يوم التعليم.. فقد جمع الأموال وافتتح المدارس، في شتى أنحاء القطر، أو إن أردت الدقة، انه ساعد العاملين من ابناء مدن القطر على انشاء المدارس الوسطى التي أرادوها، وقد كان كلما أنشأ مدرسة، أو ساعد على انشاء مدرسة، تخلّى عنها لمصلحة المعارف، تسيرها وفق مناهجها، وأولاها ظهره، وتطلّع الى غيرها.. فقد جعل وكده انشاء المدارس ولاشيء بعد ذلك، ثم إن المؤتمر كان له رأي ونشاط في الميدان الإقتصادي، وفي اصلاح القرية، واصلاح الفرد، ومحاربة الأمية، وتحسين الصحة العامة، الى آخر ما الي ذلك مماجعل المؤتمر مرجوا.. ثم ولدت الحركة السياسية في المؤتمر وذلك يوم بعث بمذكرة للحكومة يطالب فيها الى جانب حقوق أخرى بحق تقرير المصير، وقد أحاط المؤتمر هذه المذكرة بتكتم رصين عاشت فيه حتى اللجان الفرعية في ظلام دامس، ثم أخذ يتداول مع الحكومة الردود بهذا الشأن بدون أن يعني بأن يقول للجان الفرعية، بله الشعب، كيف يريد أن يكون هذا المصير الذي يطلب أن يمنح حق تقريره.. ثم انقضت فترة ومشت في المؤتمر روح شعبت أتباعه شيعا على أساس الصداقات وتجانس الميول باديء الرأي، ثم اتخذ كل فريق اسما سياسيا وجلس يبحث مبادئه ودساتيره فمنهم من يريد للبلاد اندماجا مع مصر ومنهم من يريد لها معها اتحادا، ومنهم من يريد لها شيئا لاهو بهذا ولاهو بذاك، وانما هو يختلف عنها اختلافا هو على أقل تقدير في أخلاد أصحابه كاف ليجعل لهم لونا يميزهم عن هؤلاء وأولئك .. أنبتت هذه الأحزاب وتعددت واختلفت فيما يوجب الاختلاف وفيما لايوجب الاختلاف، ولكنها كلها متفقة على الاحتراب على كراسي المؤتمر، وعلى الاستمرار في حرب المذكرات هذه مع الحكومة .. وان الحال لكذلك واذا بالخبر يتناقل بقرب مولد حزب جديد ، ثم ولد حزب الأمة بالغا مكتملا ، وجاء بمباديء يغاير المعروف منها مباديء الأحزاب الأخرى مغايرة تامة ويكتنف المجهول منها غموض يثير الريب .. والمؤتمر في دورته هذه بيد الأشقاء ، وهم قد كان مبدؤهم الاندماج أول أمرهم ، ولكنهم عندما قدّموا مذكرتهم للحكومة – حسب العادة المتبعة - ظهر أنهم اعتدلوا وجنحوا الى الأتحاد ، ولكن الحكومة ردت عليهم ردا لايسر صديقا . فعكفوا عليه يتدارسونه حسب العادة أيضا .. ولكن هذه مساعي التوفيق تسعى بين الأحزاب لتتحد وتقدم مذكرة جديدة للحكومة، فكانت مساومات، وكانت ترضيات، بين من يريدون الانجليز، وبين من يريدون المصريين، وظهرت الوثيقة – هكذا أسموها هذه المرة – الوثيقة التي تنص على حكومة ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا.
هذه صورة سريعة جدا مقتضبة جدا لنشاط المؤتمر في السياسة وفي الاصلاح، ولسائل أن يسأل لماذا لم يسر المؤتمر في التعليم على هدى سياسة تعليمية موضوعة، منظور فيها الى حاجة البلاد كلها في المستقبل القريب والبعيد؟ ولماذا لم يعن المؤتمر بمناهج الدراسة كما عني بإنشاء المدارس؟ وله أن يسأل لماذا عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر اتجهت الى الحكومة تقدم لها المذكرات تلو المذكرات، ولم تتجه الى الشعب تجمعه وتنيره وتثيره لقضيته؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولا ثم جاءت مبادؤها أخيرا؟؟ ولماذا جاءت هذه المباديء حين جاءت مختلفة في الوسائل، مختلفة في الغايات؟؟ ولماذا يحدث تحوّر وتطوّر في مباديء بعض هذه الأحزاب بكل هذه السرعة؟ ثم لماذا تقبل هذه الأحزاب المساومة في مبادئها مساومة جعلت أمرا كالوثيقة عملا محتملا.. وقد وقع واستبشر به بعض الناس؟ نعم، لسائل أن يسأل عن منشأ كل هذا.. والجواب قريب، وهو انعدام الذهن الحر المفكر تفكيرا دقيقا في كل هذه الأمور.. فلو كان المؤتمر موجها توجيها فاهما لعلم أن ترك العناية بنوع التعليم خطأ موبق لايدانيه الا ترك العناية بالتعليم نفسه، ولأيقن أن سياسة ((سر كما تشاء)) هذه المتبعة في التعليم الأهلي سيكون لها سوء العواقب في مستقبل هذه البلاد.. فان نوع التعليم الذي نراه اليوم لن يفلح الا في خلق البطالة، وتنفير النشيء من الأرياف، وتحقير العمل الشاق في نفوسهم، وانعدام الذهن المفكر تفكيرا حرا دقيقا، هو الذي طوّع للمؤتمر، يوم ولدت فيه الحركة السياسية – وهي قد ولدت ميتة- أن يعتقد أن كتابة مذكرة للحكومة تكفي لكسب الحرية، حتى لكأن الحرية بضاعة تطلب من الخارج ويعلن بها الزبائن بعد وصولها، حتى تكون مفاجأة ودهشة.. ولو ان جميع الأحزاب القائمة الآن استطاعت أن تفكر تفكيرا دقيقا لأقلعت عن هذه الألاعيب الصبيانية، التي جعلت الجهاد في سبيل الحرية ضربا من العبث المزري)
(نحن اليوم بسبيل حركة وطنية، تسير بالبلاد، في شحوب أصيل حياة العالم هذه المدبرة، الى فجر حياة جديدة، على هدى من الدين الاسلامي، وبرشد من الفحولة العربية، وبسبب من التكوين الشرقي.. ولسنا ندعو، أول ماندعو، الى شيء أكثر، ولا أقل من اعمال الفكر الحر في مانأتي، وماندع من أمورنا – الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد ويسأل عن قيمة كل شيء، وفي قيمة كل شيء.. فليس شيء بمفلت عن البحث، وليس شيء بمفلت من التشكيك فلايظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر، ولايظنن أحد أن النهضة الاقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر، ولايظنن أحد أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة ممتعة بغير الفكر الحر..
ان الحزب الجمهوري لايسعى الى الاستقلال كغاية في ذاته، وانما يطلبه لأنه وسيلة الى الحرية، وهي التي ستكفل للفرد الجو الحر الذي يساعده على اظهار المواهب الكمينة في صدره ورأسه.. ويؤمن الحزب الجمهوري ايمانا لاحد له بالسودان، ويعتقد أنه سيصبح من الروافد التي تضيف الى ذخر الأنسانية ألوانا شهية من غذاء الروح وغذاء الفكر، اذا آمن به أبناؤه فلم يضيعوا خصائصه الأصيلة، ومقوماته، بالاهطاع نحو الغرب، ونحو المدنية الغربية في غير روية ولاتفكير)
(ورأي هذا الحزب في المدنية الغربية هو أنها محاولة انسانية نحو الكمال، وهي، ككل عمل إنساني خطير، مزاج بين الهدى والضلال، وهي لهذا جمة الخير، جمة الشر.. وشرها أكبر من خيرها وهي كذلك بوجه خاص على الشرقي الذي يصرفه بهرجها، وبريقها، وزيفها عن مجال الخير فيها، ومظان الرشد منها.. ويرى هذا الحزب أننا ماينبغي أن ننقي هذه المدنية بكل سبيل كما يريد المتزمتون من أبناء الشرق، ولاينبغي أن نروّج لها بكل سبيل ونعتنقها كما يريد بعض المفتونين المتطرفين من أبناء الغرب.. وانما ينبغي أن نتدبرها وأن ندرسها وأن نتمثل الصالح منها.. وهذه المدنية تضل وتخطيء من حيث تنعدم فيها معايير القيم، وتنحط فيها اعتبارات الأفكار المجردة، فليس شيء لديها يبلغ فتيلا، اذا لم يكن ذا نفع مادي يخضع لنظام العدد والرصد فهي مدنية مادية، صناعية آلية، وقد أعلنت افلاسها وعجزها عن اسعاد الأنسان لأنها كفرت بالله وبالانسان.. ويعتقد الحزب الجمهوري ان الشرق عامة والسودان خاصة يمكنهما أن يضيفا عنصرا الى المدنية الغربية هي في أمس الحاجة اليه ، وذلك هو العنصر الروحي)
(وأما عن تعليم المرأة عندنا، فيرى الحزب أن سيره على هدى الغرب فاشل فشلا ذريعا، فهم قد حاولوا أن يسيروا بها في مراحل الرجل فلم يفلحوا الا في جعلها شيئا لاهو بالرجل، ولاهو بالمرأة.. واذا كان التعليم هو كما أسلفنا تنمية المواهب الطبيعية، والحفز على استعمالها بطريقة تكفل للفرد السعادة، وتعود على الجماعة التي يعيش فيها بأبر الخدمات ، كان من المحقق أن تعلم المرأة تعليما هو بسبيل من هذا، تعليما يسلكها في ميدانها الخاص، لا في ميدان الرجل.. هذا من ناحية التعليم في التوفر على أسباب المعاش، وأما التعليم الديني فهو يخاطب المرأة كما يخاطب الرجل، ويطلب من كليهما حسن السيرة، وقول الحق)
(وما يرى الحزب الجمهوري أن يكون هناك تعليم ديني وتعليم مدني كل في منطقة منعزلة عن الأخرى ، ولا يرى أن يكون للرجل أخلاق في المصلّى ، وأخرى غيرها في الحانوت، أو الشارع، وانما يرى أن يتعلم الناس أمور دينهم، وأمور معائشهم، ثم يضطربون في ميدان الحياة بأجسام خفيفة، وأرواح قوية، وقلوب ترجو لله وقارا)