إلى (الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)..
إلى عضو الحزب الجمهوري المجهول..
إلى السودانيين الأحرار.. إلى كل مواطن غيور.. إلى الذين يناصرون الحق.. إلى الذين تغلغل في نفوسهم الإيمان، وتمكن الإسلام من صدورهم.. إلى الذين قال لهم الله: (لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر.. ثم لتأخذون على يد الظالم لتأطرنه على الحق أطرا)..
إلى هؤلاء جميعا نهدي هذا الدفاع المجيد، فهو دفاع عن الأبرياء.. دفاع عن الدين.. دفاع عن الوطن..دفاع عن الحق.. دفاع عن الفضيلة.. علهم يطلعون على الباطل فيقضوا عليه..
الآن نستمع إلى المرافعة كاملة:
1/ أهالي رفاعة جميعهم أبرياء، وزملائي الذين سجنوا أبرياء، وأنا برئ، والمسألة في الحقيقة، سلسلة أخطاء من الإدارة، من أولها إلى آخرها.. كلما أخطأت الإدارة مرة، وتمسك الناس بحقهم، اعتبرته مساساً بهيبتها، فاستعلت، وأخذتها العزة بالإثم، فقفزت في خطأ آخر، هو في زعمها، يعيد لها هيبتها في نفوس الناس.. وما علمت أن اجتماع الأخطاء، لا ينتج منه ولا صواب واحد.
2/ الوضع الصحيح المجمل لهذه المسألة، هو أن الإدارة قد ضربت أهالي رفاعة فصاحوا من ألم الضرب بصوت خفيض، ثم ضربتهم فصاحوا، ثم ضربتهم فصاحوا، فاستاءت من أن يصيح المضروب المتألم، فقدمتنا للمحاكمة، فكانت هذه المحكمة.. ولو كنا نملك ما تملك، لقدمناها نحن لهذه المحكمة، ولكنا لا نملك جيشاً، ولا بوليساً، ولا سجوناً وقيوداً، ولو ترك القطا ليلاً لنام..
3/ قلت بالأمس، إني وبالمثل أي عضو من أعضاء الحزب الجمهوري، لا أنكر تهمة الإثارة، لمجرّد أنها تهمة إثارة، إنما أنكر تهمة الإثارة، بالنقد الذي لا يحترم الحقائق وبالتشويش المغرض.. ولقد كان من دواعي الشرف لي، ولحزبي، لو صح أني أنا الذي أثرت أهالي رفاعة حول هذه القضية، لأنها من القضايا التي نقدنا فيها الحكومة، وسننقدها إلى أن تقلع عنها.. ولكن للأسف، فإن الإدارة قد سبقتني إلى هذا الشرف، فأثارت أهالي رفاعة، وأثارتني معهم.. فلننظر..
4/ قلنا إن قضية اليوم ستظهر جليا مبلغ الصحة في نقد الحزب الجمهوري لقانون الخفاض، من ناحية الهيئة المشرعة والمنفذة، بأنها لغرابتهاعنا في الدين واللغة والعادات، لا تفهمنا هذا بصرف النظر عن سوء النية.. فلننظر..
5/ دعنا نعترف بقانون الخفاض للحظة واحدة بغرض أن ننزل مع الإدارة في ميدانها.. قال أحد البيانات الرسمية: (إن السلطة المؤيدة نظرت في قضية فتاة رفاعة، فحكمت ببراءتها لعدم توفر الأدلة ضدها).. جميل، هذا أول خطأ ارتكبته الإدارة.. وهو خطأ لا تتورط فيه إلا إدارة تجهل الناس فتستخف بعروضهم وبأخلاقهم، ولا تتورط فيه إدارة حسنة النية.. وما كان لهذا الخطأ ليصحح لولا ما قمنا به على الوجه الذي ترى المحكمة الآن.. أنا اتهم الإدارة في غلطتها هذه بسوء النية، والاستخفاف بدين الناس، وبأخلاقهم، فهل عندي برهان على ذلك؟ فلننظر..
6/ نحن لا نزال في لحظة الاعتراف بالقانون.. جعلت الحكومة حق تطبيق هذا القانون في يد المدير وحده لتأمن العثار في التنفيذ، ولتظهر للناس المعارضين من أمثالنا اهتمامها بالناس، ومجاملتها للعادات الموروثة.. ولكن فتاتنا، حاكموها وحكم عليها المفتش وسجنها، ثم أرسل أوراقها للمدير للتأييد، فأطلقناها نحن بالصورة التي قصصت على المحكمة.. فكيف جاز هذا للمدير وللمفتش لو كانا يعرفان للناس حقا ويضمران لهم نية حسنة؟؟
7/ قالت جريدة (الرأي العام) في يوم 24 سبتمبر، تحت عنوان رئيسي (القضاء ينظر في قضية الخفاض برفاعة)، بعد حديث لها: (وقد علمنا من مكتب الصحافة هذا الصباح، أن قضية الخفاض التي سببت كل هذا الشغب، هي الآن، تحت نظر رئيس القضاء بالمصلحة القضائية، وأن التهم الموجّهة إلى الذين اعتقلوا في هذه الحوادث، لا دخل لها بآرائهم في موضوع الخفاض.. ولكنها تتعلّق أولاً وأخيراً باستخدام القوّة، لتحقيق غاية، في الوقت الذي كان في الاستئناف مفتوحاً أمام المتظاهرين..)
8/ هل باب الاستئناف مفتوح أمام المتظاهرين؟ لننظر.
9/ قالت الحكومة في بيان رسمي، في الصحف، ما يأتي: «حصلت أخيراً في رفاعة حادثة أدينت فيها إمرأة لخفضها ابنتها خفاضاً غير مشروع، وحكم عليها بأربعة أشهر سجناً، وقد قدم استئناف لمدير المديرية، فرفضه، وحبست المرأة في السجن».. ومع ذلك فالحكومة تقول إن باب الاستئناف مفتوح!! وهذا الاستئناف رفض مع أن المرأة، مسجونة بغير أدلة كافية للإدانة، وفيما أعلم لم يخبر المستأنفون، ولا نحن مندوبو الهيئات، الذين قابلنا المفتش، بهذا الاستئناف، وإنما أعيدت المرأة للسجن والسلام!! فإن لم يكن هذا سوء النيّة والاستخفاف بالناس فماذا عساه يكون!؟
10/ قال الخبر عن مكتب الصحافة الذي أشرت إليه آنفا عن جريدة الرأي العام يوم 24/9/1946م: (إن التهمة الموجهة إلى الذين اعتقلوا في هذه الحوادث تتعلق أولا وأخيرا باستخدام القوة لتحقيق غاية) فهل استخدمنا القوة لتحقيق غاية؟؟ لننظر..
11/ حوادث الحصاحيصا هي الحوادث التي اتهمنا فيها بأننا استعملنا القوة، وحوادث الحصاحيصا قد سبقتها حوادث جمة، كلها تدعو إلى الثورة والغضب لو تتبعها الإنسان وهو يعرف أن الناس ناس.. ولكن لننظر في حوادث الحصاحيصا نفسها، شهادة الشيخ أبو اليسر وشهادة محمد مساعد، وهما شاهدا الاتهام تكادان تتفقان على أن الناس عندما دعوا إلى الهدوء وكانوا حوالي 600 أو 700 هدأوا وذهبوا وجلسوا ووقفوا تحت أو حول الشجر الذي يبعد عن المركزبنحو 60 أو 70 ياردة، بغرض أن ينتخب منهم عشرة مندوبين كما فعلوا في رفاعة، ثم يقفلوا راجعين بفتاتهم، أو يظلوا بالحصاحيصا أياما وليالي.. والشاهدان يقولان إن الناس انصرفوا إلى المكتب هائجين، وتركونا بمجرد وصول بوليس مدني، ولا يصرحان بشيء وراء ذلك.. وأنا أعرف أن نائب المدير أشار بأن يهددهم بقوة بوليس مسلح يلبس خوذات توهم أنهم من رجال قوة الدفاع، فكان الهياج.. هذا في أقوال شاهدي الاتهام.. إن الإدارة لا تتهم الناس بشيء إلا لأنها لا ترى لهم مطلق حق، وإلا لأنها تنكر على المتألم أن يصيح ويتألم.. ثم أين القوة؟ أهي ضرب الشبابيك الذي ابتدا بعد ساعة ونصف على الأقل من بدء الهياج بسبب الاستفزاز بالتهديد بالقوة؟
والذي ما كان ليحصل لو لا صلف نائب المدير واستخفافه بالناس!!
12/ مفتش رفاعة، سجن أمرأة مصونة شابة، في سجن عمومي مع خادمة عاهرة.. فحدثناه في ذلك، فاعترف بعدم صلاحية السجن للنساء، في رفاعة، فأطلقها بضمانة، وظل ما ظل في رفاعة لا يذكرها، فلماذا عندما ذهب إلى الحصاحيصا، أمر بإعادتها إلى نفس السجن؟! فهل تسمي هذا استخفافاً بدين الناس، وأخلاقهم، أم تسميه جهلاً بالناس أم هما معاً؟! سمه ما شئت فهو برهان ثالث..
13/ إن في تصرف المفتش هذا، ما يجعل ما قمت به أنا، في الجامع، وما قام به الناس بالمركز، شيئاً مفروضاً علينا، في واجب الدين، وواجب الأخلاق، وواجب الحياة نفسها، بل إن الناس قد سلكوا سلوكاً يستحق الثناء، وقد شرحنا تفصيله للمحكمة..
14/ أخذ العمدة عبد الله محمد أبو سن وكاتبه المرأة من منزلها قريبا من نصف الليل إلى الحصاحيصا، وأرسلت منها إلى سجن مدني.. فأي حكومة تسمح لنفسها أن تتصرف مثل هذا التصرف، وأي شعب عربي مسلم يرضى مثل هذا؟
15/ وضعت المرأة بسجن مدني، وما أدراك ما سجن مدني؟ بهذا السجن اليوم 23 امرأة، منهن أربع مجنونات، يفحشن بألفاظ يندى لها وجه الرجل، وسائرهن عهر، أحضرن من بيوت عامة، وحوكمن في جرائم خمرة.. بين عنبرهن وعنبر الرجال، نحو (15) متراً يفصل بينهم وبينهن السلك الشائك، فهن يذهبن لأدبخانتهن دفعة واحدة، كل واحدة منهن تحمل كوزها فيجلسن في انتظار دورهن، وهن جلوس بمسمع ومرأى، ويشاغلن بعضهن بعضا بنظرات وبألفاظ تطير الدم في رأس الرجل الغيور!! وهن يسكن في عنبر واحد ما عدا اثنتين من المجنونات، وهن يغنين التمتم في أكثر الأمسيات بأصوات ونغمة عالية.. ويقضين حاجتهن خارج الأدبخانة على مرأى من الرجال، بشكل وبصورة لا يعملها حتى مجرمي المساجين، وما ذلك إلا لأن الأخلاق قد هانت عليهن، وما ذلك إلا لأن الرجال قد هانوا عندهن، وما ذلك إلا لأن الوازع الديني قد مات في نفوسهن والحياء، حياء الأنثى الغريزي لا وجود له.. مع هؤلاء، في هذا السجن، يراد سجن إمرأة شابة حرة، مسلمة، مصونة، تشرف على تربية بنات وأولاد، تركهم لها زوجها، الذي توفي قبل شهر.. فإذا قال أهلها لا، وناصرهم إخوانهم في الدين، وفي الجنس، وفي الوطن، قالت الحكومة هذا شغب، وهذه فتنة، وهذا تهديد!!
16/ تتهمني الإدارة بأني أثرت أهالي رفاعة، وهي تتهمني هذه التهمة، لأنها تجهل الناس جهلاً، شنيعاً، وتستخف بأحلامهم، وأخلاقهم، وإلا فهل أحد يحتاج إلى من يثيره مع كل هذا؟! وهل أستطيع أنا، أو يستطيع أبلغ خطيب، أن يثير الناس أكثر من إثارة الإدارة هذه إياهم؟! وأهالي رفاعة، خارج رفاعة، من الذي أثارهم؟ اسمع تلغراف أهالي رفاعة، من مدني وتندلتي.. هؤلاء الناس، لو كانوا شهوداً، لتولوا كبر الثورة.. هل أثارت هؤلاء واخوانهم الإدارة، أم أثارهم محمود في جامع رفاعة؟!
17/ رأت الإدارة أن سوء تصرفها، وهي تعرفه، قد أذهب هيئتها وتوهمت أن الناس قد تجرءوا عليها فاستهانوا بها، فظنت أنه لا بد من إعادة الرعب إلى صدور الرجال برفاعة بأي شكل، فكانت مأساة رفاعة الأخيرة.. ولكن لا بد من تبرير للرأي العام لهذه الأعمال الانتقامية.. نشرت الحكومة في بيان رسمي في الجرائد المحلية بتاريخ 2/10/1946م تقول فيه بعد حديث: (عاد الجمهور أدراجه إلى رفاعة وكان يبدو عليه أنه عازم على إحداث اضطرابات أخرى هناك)..
18/ إن جمهورا سلوكه في كل هذه المصائب كالذي قصصت على المحكمة، لا يمكن أن يتهمه بإحداث الاضطرابات إلا أحد رجلين أو هما معا: رجل لا يفهم الناس، أو رجل يبيت غرضا وراء التهمة.. وقد كانت الإدارة كلا هذين الرجلين.. فلو أراد الجمهور إحداث الاضطرابات، لأحدثها في أصيل يومه ذاك، فقد وصل الجمهور رفاعة الساعة أربعة مساء، ولو أراد إحداث الاضطرابات، لأحدثها في صباح اليوم التالي، الذي وصلت قوات الانتقام والتأديب بعد منتصف نهاره.. بل إن هذا الجمهور ما كان ليخرب، ويحدث اضطرابات بالحصاحيصا، لو لم يدفع إلى التخريب دفعا.. ولو كان الناس يبيتون نية التخريب والعنف، لاتخذوا لذلك العدة، فهم ذهبوا عزلا لا يحملون حجرا ولا عصا، ولابتدأوا بالتخريب وإحداث الاضطرابات، ولما سلكوا يوم الجمعة، بمركز رفاعة، وهم فوق ال 800 نفس بالطريقة التي ذكرها حتى شهود الاتهام، ولخربوا في الوقت الذي لم يكن بالمركز من يمنعهم التخريب غير ضمائرهم.. لا.. إن الإدارة تبيت أمرا!!
19/ قالت الحكومة في البيان الرسمي الذي أشرت إليه آنفا بعد حديث: (وقد قبض على هؤلاء المساجين نفر قليل من المواطنين المسئولين برفاعة دون مساعدة جيش أو بوليس)، فإن كانت الإدارة لا تبيت أمرا، وتريد أن تسترهب الرجال لماذا ضربت الجماهير؟ ولماذا نصبت المدافع الرشاشة فوق المركز؟ ولماذا أحضرت بلكا من قوة دفاع السودان من الخرطوم لمدينة هادئة آمنة؟ في الوقت الذي تعرف فيه أن بهذه المدينة مسئولين عقلاء، يقبضون على المساجين بدون مساعدة البوليس أو الجيش كما تقول هي.. نحن نعرف أن بعض المسئولين، كان مع المفتش بمكتبه قبل إطلاق الرصاص، وقد أخذوا على عاتقهم تهدئة الناس الذين استفزتهم مطاردة الإدارة لهم، وشهر السلاح في وجوههم، وتفريقهم دون اللجوء إلى إراقة الدماء.. ونحن نعرف أن (قمندان) البوليس لم يكن من رأيه إطلاق الرصاص، ولكن المفتش ضرب برأي هؤلاء المسئولين، وبرأي القمندان عرض الحائط، وأمر بإطلاق الرصاص.. المفتش كان يتوهم أن إقامته برفاعة، سيكون فيها خطر عليه إذا لم يعد الرعب إلى قلوب الرجال بضربهم بالرصاص، وكذلك فعل.. وناس رفاعة أنفسهم هل أثيروا في الجامع؟
قلت إني لما سمعت بالحادث حوالي يوم 9/9/1946م وكتبت الجواب للمفتش، لم يدر بخلدي أن أي أحد من الناس سيناصرني، حتى ولا الهيئات.. وإنما كنت اعتمد فيما أردت الإقدام عليه، على الحزب الجمهوري بالخرطوم.. وبعد أن أرسلت الجواب للمفتش، اتصلت بي الهيئات وطلبت أن تمثل، واتصل بي الجمهور وطلب أن يكون ورائي، وكان بالمركز يومها أول ما وصلنا، نحو الثلاثين.. وريثما انتهينا فأطلقنا المرأة تكامل العدد إلى ما يقارب المائة.. وما كنت أعرف منهم آنذاك إلا القليل، وكانوا متحمسين بشكل غريب، حتى لقد أرسلوا نحوا من العشرين تلغرافيا للحزب الجمهوري بالخرطوم، لعل صورها تكون موجودة بمكتب بوستة رفاعة..
20/ قالت الحكومة في النشرة الرسمية التي أشرت إليها، بتاريخ 2/10 ما يأتي: (قبض على هؤلاء المساجين نفر قليل من المواطنين المسئولين دون مساعدة الجيش أو البوليس) فمن هم هؤلاء المسئولين؟ كيف كان قبضهم على المسجونين؟
رأي أهالي رفاعة بعد حوادث الضرب، أن يكونوا لجنة ليحملوا عن الحكومة مسئولية القبض على من تطلبهم، خوفا من أن تأتي بتصرف كسابقه في العنف والبطش بالناس.. والحكومة إنما أرادت بهذا القول، أن تظهر للناس أن المسئولين من أبناء رفاعة لا دخل لهم بهذه القضية، وهذه دسيسة خبيثة.. ولعل من الخير للحكومة أن تعرف جيدا أن هذه الحركة لم يقم بها نفر دون آخر من أبناء رفاعة، بل إن كل الأهالي كبارا وصغارا، المسئول منهم وغير المسئول، هبوا هبة الرجل الواحد، يربطهم الشعور بالكرامة المعهودة، والغيرة على الأعراض المنتهكة.. والحكومة تفهم جيدا، ولكنها تستخف بالحقائق وتستخف بالناس، فإن لم يكن ذلك كذلك فهلا طلبت هذه الحكومة من هؤلاء المسئولين، الذين تعتد بهم، وتزعم أنهم في صفها، هلا طلبت منهم القبض على من تريدهم قبل أن تحشد قواتها، وتأتي بقوة لتحاصر المدينة الآمنة!؟