إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني (11)


محمد محمد الأمين عبد الرازق

وردت إشارات عابرة إلى "فترة الاعتكاف" أثناء عرضنا لمسيرة الحزب الجمهوري في مرحلته الأولى، التي قلنا أن هدفها كان ملء فراغ الحماس ضد الاستعمار.. ويمكننا أن نشاهد خلال تلك المسيرة محطات، شكلت نقاط عبور في تطور حركة الجمهوريين، وهي: تأسيس الحزب، السجن الأول، السجن الثاني، فترة الاعتكاف ثم الخروج منها في اكتوبر 1951م، إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة ملء فراغ الفكر أوالمذهبية.. وقد كانت فترة الاعتكاف برزخا بين المرحلتين، فعندما انتهى الأمر بالإنجليز في السجن الثاني، إلى أن يضعوا الأستاذ محمود في غرفة منعزلة رضوخا لإصراره على أنه سجين سياسي وليس مجرما، فقد وظف هو هذه العزلة للعبادة.. وعندما خرج من السجن بعد العامين، في اكتوبر 1948م، فإنه واصل نفس المنهج، فاستقر في غرفة بمدينة رفاعة، متفرغا للعبادة حتى اكتوبر من عام 1951م، أي لثلاث سنوات إضافية وكانت تلك هي فترة الاعتكاف.. ويلاحظ أن التفرغ للعبادة هذا بدأ بسبب السجن، فلم يكن للأستاذ محمود فيه إرادة، ولكنه انتهى بمواصلة طوعية بإرادته.. ولم يظهر للحزب الجمهوري نشاط خلال هذه الفترة التي امتدت لخمس سنوات ما عدا بعض الاجتماعات المتفرقة، وبعض الكتابات في الصحف، وقد كتب الأستاذ مقالات صحفية في العام الأخير.. لماذا كان الاعتكاف؟؟ وكيف قضى الأستاذ هذه الفترة الطويلة؟؟
الإجابة على السؤال الأول نشرت بتفصيل في كلمة بصحيفة (الشعب) يوم 27/1/1951م تحت عنوان (سعيد يتساءل)، وقد كانت ردا على الاستاذ سعيد الطيب شائب الذى انضم الى الحزب الجمهورى عام 1951م، ولكنه كان متابعا منذ العام 1947م، وشارك بفعالية في المرحلة الثانية، إلى أن عُيّن القيادي الأول للإخوان الجمهوريين حتى عام 1985 م ، فإلى الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
(الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم، فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل)..
صدق الله العظيم
جريدة الشعب – السبت 27/1/1951م
حضرة صاحب جريدة الشعب ص ب 226 الخرطوم..
تحية، وبعد:-
فقد إطلعت، بعددكم السادس، على كلمة من الأخ سعيد يتساءل فيها عني، وقد أعلم أن كثيرا من الأخوان يتساءلون، كما تساءل، فلزمني لهم حق الشكر، ولزمني لهم حق الإيضاح..
عندما نشأ الحزب الجمهوري أخرج، فيما أخرج، منشورين: أحدهما بالعربية: (قل هذه سبيلي)، والآخر بالإنجليزية: ISLAM THE WAY OUT ضمنهما إتجاهه في الدعوة إلى الجمهورية الإسلامية.. ثم أخذ يعارض الحكومة في الطريقة التي شرعت عليها تحارب عادة الخفاض الفرعوني، لأنها طريقة تعرض حياء المرأة السودانية للإبتذال، وعلى الحياء تقوم الأخلاق كلها، والأخلاق هي الدين..
ثم نظرت موضوع الدعوة إلى الإسلام، فإذا أنا لا أعرف عنها بعض ما أحب أن أعرف.. فإن قولك: (الإسلام) كلمة جامعة، قد أسيء فهم مدلولها الحقيقي، لأن الناس قد ألفوا، منذ زمن بعيد، أن تنصرف أذهانهم، عند سماعها، إلى ما عليه الأمم الإسلامية اليوم من تأخر منكر.. وما علموا أن المسلمين اليوم ليسوا على شيء..
فأنت، إذا أردت أن تدعو إلى الإسلام، فإن عليك لأن ترده إلى المعين المصفى الذي منه استقى محمد، وأبوبكر، وعمر.. وإلا فإن الدعوة جعجعة لا طائل تحتها.. ولم تطب نفسي بأن أجعجع..
وبينما أنا في حيرة من أمري إذ قيض الله (مسألة فتاة رفاعة)، تلك المسألة التي سجنت فيها عامين إثنين، ولقد شعرت، حين استقر بي المقام في السجن، أني قد جئت على قدر من ربي، فخلوت إليه.. حتى إذا ما انصرم العامان، وخرجت، شعرت بأني أعلم بعض ما أريد.. ثم لم ألبث، وأنا في طريقي إلى رفاعة، أن أحسست بأن علي لأن أعتكف مدة أخرى، لاستيفاء ما قد بدأ.. وكذلك فعلت..
فهل حبسني ابتغاء المعرفة؟؟
لا والله!! ولا كرامة.. وإنما حبسني العمل لغاية هي أشرف من المعرفة.. غاية ما المعرفة إلا وسيلة إليها.. تلك الغاية هي نفسي التي فقدتها بين ركام الأوهام، والأباطيل.. فإن علي لأن أبحث عنها على هدى القرآن – أريد أن أجدها.. وأريد أن أنشرها.. وأريد أن أكون في سلام معها، قبل أن أدعو غيري إلى الإسلام.. ذلك أمر لا معدى عنه.. فإن فاقد الشيء لا يعطيه.. فهل تريدون أن تعلموا أين أنا من ذلكم الآن؟؟ إذن فاعلموا: إني أشرفت على تلك الغاية، ويوشك أن يستقيم لي أمري على خير ما أحب..
محمود محمد طه
رفاعة
جريدة الشعب السبت 27/1/1951م

هذه هي الإجابة على السؤال الأول، أما السؤال الثاني حول الكيفية أو شكل الممارسة، التي ملأ بها الأستاذ فترة الاعتكاف فتبدو غير ذات أهمية، لأنها تجربة فردية، ذاق الناس ثمرتها فيما بعد.. ولكن يمكن أن نقول بعض الملاحظات المعروفة: كان الأستاذ محمود يصلي الأوقات الخمسة مضافا إليها صلاة قيام الثلث الأخير من الليل.. والأخيرة عنده فرض يوجب القضاء في حالة عدم أدائه في وقته كما كان يفعل االنبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وليست ندبا كما هو الحال في الشريعة السلفية.. وكان يصوم الشهر ويصوم صيام المواصلة، المعروف في السنة وكان يستمر فيه لمدة سبعة أيام متتالية بلا إفطار عند المغيب، أو خمسة عشر يوما، وباختصار كان يطبق عمل النبي في خاصة نفسه، وفي كلمة: السنة.. وكان يتأمل في الشمس والنجوم، وأحيانا السباحة في النيل، وكان أثناء ذلك ملتحيا، ومنقطعا عن المجتمع بصورة شبه كاملة، حتى أن بعض الناس اتهموه بالجنون، ولم بكن احتمال هذه الفترة هينا على الأسرة، فقد كان الأستاذ مهندسا بارزا وسياسيا محنكا فتحول إلى حالة أدخلت أسرته في حيرة محبطة، ووضع غير مريح اجتماعيا.. ويقول الأستاذ علي لطفي، الصبي، الذي كان يتولى خدمة الأستاذ محمود في خلوته: "كنت عندما يبدأ الأستاذ في السجود أثناء الصلاة أشرع في الحساب: 1 ، 2 ، 3 ولاحظت أنه يرفع من السجود عندما أصل إلى 480 وبصورة متكررة" .. فالصلاة كانت طويلة وكذلك الصيام الصمدي..
ويبدو أن الخروج من هذه الخلوة، تم بصورة تدريجية، فقد أرسل الأستاذ مقالات إلى الصحف في مستهل عام 1951م.. وفي اكتوبر من نفس العام فاجأ زوجته التي تستعد لرحلة علاج إلى الخرطوم، بأنه سيرافقها، فأسرعت، والفرح يغمرها، إلى والدها تبلغه النبأ، وكان ذلك اليوم بحق عيدا للأسرة.. بعد ذلك سافر الأستاذ إلى عطبرة، ثم بورتسودان مصطحبا زوجته ولم تفارقه قط الى أن انتهت الرحلة.. ويقول السيد عوض لطفي الذي كان مرافقا لهما: "أنا الحقيقة كنت متضايق من وجود زوجته معانا، وداخل في حرج شديد، طبعا لأنها أختنا، الزمن داك ما كان في زول بيسوق زوجته معاهو بالمرّة.. حتى لمن مشينا وسط الميكانيكية في بورتسودان ساقها معانا!! والله لو ما مكانتو في نفوسنا كبيرة كان ما مشينا معاهو من الأول!!".. كان الإنجليز يراقبون حركة الأستاذ محمود في هذه الرحلة، ففي عطبرة زار الأستاذ زملاءه القدامى بنادي السكة حديد، واجتمع بهم وحدثهم حول القضايا الوطنية، ولاحقا، استدعي الإنجليز رئيس النادي لمساءلته في ذلك..

تجديد النشاط:


قلنا أن حركة الجمهوريين أثناء غياب رئيسه بسبب السجن والاعتكاف، كانت محدودة، وكانوا يتفاكرون في اجتماعات متفرقة، حول كيفية تجديد النشاط وقد طالت غيبة الرئيس، وكان هناك اقتراحا بأن يكون الأستاذ محمود راعيا للحزب ليتمكن الأعضاء من الحركة، إلا أن الأستاذ محمود فاجأ الجمهوريين بالظهور كما فاجأ زوجته، وعقد أول اجتماع في المرحلة الجديدة يوم 30/11/1951م.. وقد قدم رئيس الحزب في ذلك الاجتماع بيانا أوضح فيه خط الحزب الجديد، واتجاهه الفكري مؤكدا ضرورة المذهبية للعمل السياسي، وناعيا على الأحزاب الأخرى افتقارها إلى المذهبية، ومما جاء في ذلك البيان:
(الحزب الجمهوري ليس حزبا يقوم على التهريج، كما هي العادة المألوفة لدى الأحزاب التي نراها، ونسمع عنها، وإنما هو دعوة إلى فكرة، أولا وقبل كل شيء.. والجمهوريون ارتضوا هذه الفكرة وارتبطوا بها، وعملوا على تحقيقها)
ويمضي البيان فيقول:
(وللجهاد الصادق لا بد من الإسلام، ولأسلوب الحكم الصالح لا بد من الإسلام أيضا.. ولو فرضنا جدلا أن هذا التكتل الصناعي الذي تدعو إليه الأحزاب الوطنية حول جلاء الاستعمار فحسب، استطاع أن يخرج الاستعمار لخشينا أن يقودنا إلى حرب أهلية مستطيرة.. فيجب أن نفهم جيدا أن القول بأن الجمعية التأسيسية هي التي تقرر مصيرنا قول مضلل.. ذلك بأننا نحن، منقسمون بين طائفتين كبيرتين بينهما عداء تاريخي، وليس لأي منهما برنامج إيجابي، وإنما برنامج كل منهما الحرص على ألا تنتصر الأخرى.. ولا يمكن أن يكون في مثل هذه الحالة انتخاب حر، ولا ينتظر أن يرضى المهزوم في انتخاب مطعون فيه، عن نتيجته.. ولا يمكن تبعا لذلك، أن يكون هنالك استقرار، وإنما هي الحرب الأهلية والفوضى، والفساد والنكسة)

ثم طرحت في نهاية الاجتماع أرانيك عضوية لمن يرغب، فسجل الأستاذ عبد اللطيف عمر حسب الله اسمه عضوا بالحزب الجمهوري في ذلك اليوم..
وهكذا بدأت المرحلة الثانية، مرحلة ملء فراغ الفكر، وإعلان المذهبية الجديدة التي اتخذت اسم الدعوة الإسلامية الجديدة.. وواصلت مجموعة من الذين اشتركوا في المرحلة الأولى، وأعلنوا التزامهم بالأفكار الجدبدة، بينما تحفظ البعض ولكنهم لم يعترضوا.. وكان من أوائل الملتزمين أمين محمد صديق ومحمد فضل الصديق، وقد أشرنا إلى أن الأستاذ محمود كان يقول عنهم : "مما عقدوا ما نقضوا ".. ثم خرج للناس دستور المرحلة الجديدة لعام 1951م..

دستور 1951م:


بسم الله الرحمن الرحيم
(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)
صدق الله العظيم
الإسم: الحزب الجمهوري
الشعار: الحرية لنا ولسوانا
المبدأ: تحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة، والحرية الفردية المطلقة
الوسيلة: قيام حكومة سودانية، جمهورية، ديمقراطية، حرة داخل حدود السودان الجغرافية القائمة الى عام 1934م، وذلك بالعمل المتصل:
"أ" الوحدة القومية..
"ب" ترقية الفرد من رجل وامراة..
"ج" محاربة الخوف..
"د" الدعاية للسودان بالعمل الصادق والقول المقتصد..
"و" توطيد العلاقات مع البلاد الاسلامية والبلاد المجاورة بوجه خاص ومع سائر بلاد المعمورة بوجه عام..
العضوية: "أ" لكل سودانى او سودانية بلغت من العمر 18 سنة..
"ب" لكل مواطن ولد بالسودان او كانت اقامته فيه لا تقل عن عشر سنوات لم يغادر خلالها البلاد..
مال الحزب: يصرف مال الحزب فى تحقيق الاغراض التى من اجلها نشا الحزب ..
مذكرة تفسيرية
الحزب الجمهوري، دعوة الى مدنية جديدة، تخلف المدنية الغربية المادية الحاضرة التى أعلنت افلاسها بلسان الحديد والنار، فى هذه الحروب الطواحن التى محقت الارزاق وأزهقت الارواح.. ثم لم تضع أوزارها إلا وقد انطوت الضلوع على حفائظ، تجعل فترة السلام فترة استعداد لمعاودة الصيال من جديد، بصورة أكثر بشاعة وأشد تسعيرا.. والفلسفة الاجتماعية التى تقوم عليها تلك المدنية الجديدة، ديمقراطية اشتراكية، تؤلف بين القيم الروحية وطبائع الوجود المادي تأليفا متناسقا مبرأ على السواء، من تفريط المادية الغربية التى جعلت سعى الانسانية موكلا بمطالب المعدة والجسد، ومن إفراط الروحانية الشرقية التى أقامت فلسفتها على التحقير من كل مجهود يرمي الى تحسين الوجود المادي بين الاحياء.. وطلائع هذه المدنية الجديدة أهل القرآن الذين قال تعالى فيهم (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أى وسط بين تفريط الغرب المادي وإفراط الشرق الروحاني.. ودستور هذه المدنية الجديدة "القرآن" الذى يقوم بحل المسألة التاريخية التى أعيت حكمة الفلاسفة: مسألة التوفيق بين حاجة الفرد الى الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة الى العدالة الاجتماعية الشاملة.. وسمة هذه المدنية الجديدة: الانسانية، فإنها ترى أن الأسرة البشرية وحدة، وأن الطبيعة البشرية حيث وجدت فهى بشرية، وأن الحرية، والرفاهية، حق مقدس طبيعى للأسود والأبيض والأحمر والأصفر.. وسيبدا الحزب الجمهورى بتنظيم منزله .. ومنزل الحزب الجمهورى السودان بكامل حدوده الجغرافية القائمة الى عام 1934م، ذلك بأن هذه المدنية الجديدة لابد لها أن تطبق داخل هذه الحدود قبل أن تسترعي انتباه الانسانية اللاغبة، الضاربة فى التيه.. وأول خطوة فى سبيل تطبيقها، إجلاء الاستعمار فى جميع مظاهره إجلاء تاما ناجزا، وسلاحنا فى إجلاء الاستعمار عدم التعاون معه أول الأمر، لنبلغ بعدم التعاون هذا، درجة العصيان المدني آخر الأمر.. فإذا تم ذلك فقد أصبح بقاء الإستعمار ضربا من المحال.. وأما سبيلنا الى تحقيق العصيان المدني، فهو الاستقتال فى سبيل نشر الدعوة حتى تتم لنا الوحدة القومية، بخلق سودان يؤمن بذاتية متميزة، ومصير واحد، يفهم أفراده المسائل العامة على نحو قريب من قريب، فتزول بذلك الفوارق الوضعية من اجتماعية وسياسية، فترتبط اجزاء القطر من شماله، وجنوبه، وشرقه، وغربه، فيصبح كتلة سياسية واجتماعية متحدة المنافع متقاربة الاحساس..)

بهذا نصل إلى ختام هذا البحث، حول تاريخ الحزب الجمهوري في مرحلته الأولى السياسية، وقد وصلنا إلى بدايات المرحلة الثانية الفكرية، وأرجو الله أن بعيننا على التوثيق لها بمقالات منفصلة..