إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٤)

خالد الحاج عبد المحمود


الإسلام كنظرية نقدية

الإسلام كنظرية نقدية
نقد الواقع


الحضارة والمدنية


ومما له صلة أساسية، بمفهوم الواقع، ما سبق أن ذكرناه، في الحلقة الثانية، من أننا نعيش في اخريات الثلث الأخير من ليل الوقت.. فمن لا يرى جيدا، تغلب عليه رؤية ظلام الليل، فيتوهم أن لها السيادة.. أما من يرى جيدا، فيرى أن ظلام الليل، يوشك أن يزول، فهو في حالة فناء.. أما ما يوشك أن يولد فهو اليوم الجديد، الذي بدأت تظهر تباليج فجره، ولن يلبث طويلا، حتى يطلع. وهذا اليوم هو - اليوم الآخر - الذي ظلت جميع رسالات السماء تستهدفه، وتبشر به، وتدعو له، وللإيمان به، حتى أنه أصبح ركنا من أركان الإيمان الديني.. هذا الثلث الأخير من ليل الوقت، هو قمة (الحضارة) البشرية، على الأرض - وقد ميزنا بين الحضارة والمدنية، فليراجع في موضعه - بل ما نعيشه هو (الحضارة) المعرفة بالألف واللام، وكل صور الحضارات السابقة، هي تمهيد واعداد لهذه الحضارة، ومقدمة طبيعية لها.. وانسان هذه الحضارة، هو قمة البشرية، أو (خاتم البشر) كما عبر بعض المفكرين الغربيين، ولكن بمعنى غير الذي عنوه.. وهذه الحضارة وصلت الى نهايتها، وتوشك أن تفضي الى عصر (المدنية) المعرفة بالألف واللام.. مدنية (اليوم الآخر)، التي كانت جميع المدنيات، والحضارات، الأخرى السابقة، مقدمة لها، وإعداد للأرض حتى تجعل ظهورها ممكنا.. وهذه الحضارة، لكي تتحول الى مدنية، هنالك العديد من صور التغيير الهامة، التي لا بد أن تتم فيها، بالنسبة للفرد البشري، وبالنسبة للمجتمع البشري.. وأساس التغيير كله، هو التحول من مرحلة قمة البشرية، الى مرحلة الانسانية.. وهو يعني التحول من الحياة الدنيا، الى الحياة العليا - الأخرى - والتحول من عقل المعاش، وقيمه، الى عقل المعاد، وقيمه - ولقد سبق لنا أن ذكرنا، أن الانسان طالما سيطرت عليه النزعات الحيوانية، قاومها، أو خضع لها، فهو في الحياة الدنيا - فنحن على الرغم من أننا خرجنا من الغابة، منذ وقت طويل، إلا أننا خرجنا والغابة داخلنا، فهي وإن يك قد حدث لها تلطيف في الخارج، إلا أنه في الداخل، لا يزال الحيوان هو المسيطر، لم ينله إلا القليل جدا، من التهذيب، والأنسنة.. والبيئة الجديدة، وهي تفرض علينا السلام، تقتضي التخلص من جميع النزعات الحيوانية فينا، والتحول نحو النزعات الإنسانية.. وهذا يعني السيطرة التامة للفكر، والقيم، على الغرائز، بدلا عن سيطرة الغرائز، كما هو الحال عند الحيوان، والى حد كبير عندنا نحن، حتى الآن.. ولأن حكم وقتنا الجديد، يقتضي السلام، فإن أهم ما ينبغي أن نتحول عنه، من نزعاتنا الحيوانية، هو (العدوانية)، والتي تعبر عن نفسها، بصور عديدة، أهمها، وأخطرها، الاتجاه الرهيب جدا، والمكلف، والخطير جدا، الى التسلح وعسكرة الحياة، والذي يسود جميع دول العالم!! فعلى الرغم من أننا فقدنا المخالب، والأنياب، التي كانت لنا في الغابة، إلا أننا لم نتخلص منها، وإنما استعضنا عنها، بمخالب وأنياب، أكثر فتكا، بكثير جدا من تلك التي كانت لنا ونحن في الغابة!!
رغم كل التطور الخارجي، إلا أن قانون الغابة لايزال هو السائد - صحيح أن هنالك الكثير من التلطيف - لكن لم يتم تجاوز قانون الغابة، في مجتمعنا هذا المتحضر!! والقاعدة الاساسية في قانون الغابة هي أن القوة تصنع الحق وتتقاضاه..
فللقوي حق طبيعي على الضعيف يستحقه لمجرد قوته..ويتقاضاه بقوته.. هذه هي شريعة الحيوان، ولا نزال نحن نعتقد فيها، ونعمل بها.. ولا يزال اسلوب الهيمنة، الذي يقوم عليه مجتمع الحيوان، في الغابة، هو الأسلوب السائد في مجتمعنا المتحضر!! ولا تزال، في مجتمعنا، الحيوانات الصغيرة، والضعيفة، عليها أن تعيش على فضلات الحيوانات القوية!!