إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٤)

خالد الحاج عبد المحمود


الإسلام كنظرية نقدية

بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (4)
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) سبأ 24

الإسلام كنظرية نقدية
نقد الواقع


إن ما يحدد نظرتنا للواقع، وتعاملنا معه، هو موقفنا من الحقيقة.. بل إن موقفنا من الحقيقة، هو الذي يشكل جميع تفكيرنا، وحياتنا .. وفي الاسلام - كما سبق أن ذكرنا - الحقيقة واحدة، ومطلقة.. وهي الذات الالهية .. ولأن الحقيقة مطلقة، فلا شئ في الوجود، يمكن أن يقوم من دونها، أو يكون على غير صلة بها .. فكل شئ في الوجود هو وجهها (واينما تولوا فثم وجه الله) .. فهي مهيمنه على الوجود هيمنة مطلقة .. وهذه الهيمنة، هي دين الاسلام العام، الذي لا يخرج عنه خارج، ولايشذ عنه شاذ .. فأي نظرة، لأي شئ في الوجود، دون اعتبار هذه الحقيقة، هي نظرة قاصرة، ومنبتة!! ولما كانت الحقيقة هي صاحبة الفاعلية المطلقة في الوجود، فكل مايحدث في الوجود هو تجلي لقدرتها - تجسيد لهذه القدرة - وهذا هو الواقع .. والقدرة هي تنزل عن الارادة، والارادة تنزل عن العلم، ولذلك قلنا ان الواقع هو تجسيد علم الله، فهو مصنوع من مادة الفكر.. وقد أوردنا قول الأستاذ محمود في هذا الصدد، ونعيده هنا، فهو قد قال من كتابه (القراّن ومصطفي محمود والفهم العصري).. "فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط والمطلق في ذلك - وانه لحق ان العلم قد صنع من مادة الفكر ومن اجل ذلك جاءت كرامة الفكر .. ولم يجعل الله هادياً في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وانما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع .. قال تعالى: (وأنزلنا اليك الذكر، لتبين للناس، ما نزل إليهم، ولعلهم، يتفكرون) .. فكأن العقل إذا روّض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، "ادب الوقت"، اصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه .." ولوأن الواقع والفكر بينهما اختلاف نوع، لما أمكن للفكر، ان يتعامل مع الواقع .. فكون الواقع، مصنوع من مادة الفكر، هو جوهر العلاقة بين الفكر والواقع، كما هو جوهر تميز الانسان على جميع خلق الله .. وهو الذي أعطى الانسان إمكانية، ان يكون خليفة الله، وجعل هذا واجبه الاساسي بل وقدره المقدور.
وفي حين ان الحقيقة واحده، ومطلقة، فإن الحق والباطل، متعددان ونسبيان .. فالباطل ليس اصلاً، في الوجود، وإنما هو فرع .. فالباطل لاوجود له في الحقيقه، وانما وجوده وجود عقلي، وجود شرعي، وذلك لان كل مايدخل الوجود، لايدخل إلا بارادة الله .. وإرادة الله، لا تكون باطلاً، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً .. وإنما هي دائما تكون لحكمة، وهذه الحكمة الالهية، هي وجه الحق الذي في الباطل.. فالباطل هو وجه الحق البعيد من الحقيقة، في حين ان الحق هو الوجه القريب منها .. وكلاهما متحرك يطلب الحقيقة، ونسبيتهما، هي نسبة قربهما، أو بعدهما من الحقيقة.
وأمر هذه الثنائية، هو امر ضروري جداً، لادراك العقول البشرية، فهي لا تدرك الأشياء الا بضدها، ولذلك خلق الله تعالى الازواج .. قال تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون * ففروا الى الله، اني لكم منه نذير مبين).. فالحكمة من خلق الازواج هي تمكين العقول من الادراك: "لعلكم تذكرون" والتذكر عملية مزاوجة بين طرفين: الذاكرة والخيال .. قوله "فروا الى الله" يعني فروا من التعدد الذي يقوم عليه ظاهر الواقع، الى الوحدة، التي تقوم عليها الحقيقة .. أو فروا من الادراك الشفعي - إدراك العقول - الى الادراك الوتري – ادراك القلوب!!
لقد سبق ان ذكرنا، أن الواقع هو تجلي الله .. والتجلي هو ظهور "الأمر" في الزمان والمكان يقول تعالى: (كل يوم هو في شان) وشأنه تعالى، هو ابداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. ويومه هنا، هو لحظة التجلي، وهي تدق حتى تخرج عن الزمن .. والزمن هو اكبر خلق الله، على الاطلاق، والمكان هو مظهر الزمان، وللوحدة بين الزمان والمكان، اصبح يعبر عنهما في العلم الحديث بالزمكان .. ومايظهر في الزمان والمكان - الواقع - يشمل النور والظلام، الخير والشر، الحق والباطل .. الخ، ولكن هذه الثنائيات ليست متساوية، فدائماً أحدها أصل، والثاني فرع، والاختلاف بينهما اختلاف درجة .. فالنور أصل، والظلام فرع .. والخير اصل والشر فرع.. والحق اصل والباطل فرع ..الخ وجميعها متحركة، والحركة دائماً من الفرع، نحو الاصل، والاصل نفسه متحرك، يطلب الحقيقة – وقد سبق الحديث عن ذلك .. ومانريد ان نؤكده هنا هو أن الحركة في الواقع هي حركة هادفة، وليست عشوائية .. وغايتها النهائية هي الحقيقة .. وهي في سيرها نحو هذه الغاية، في كل وقت جديد تنزل منزلة جديدة.. وهذه المنازل وفقها يتحدد الحق والباطل .. وهذا مايسمي "حكم الوقت" وهو أمر هام جداً، ولا يمكن من دونه قراءة الواقع، قراءة صحيحة .. هذا الذي ذكرناه، من ان الحركة في الكون، حركة هادفة، هو مايعبر عنه ب "الغائية الكونية "، وهو أمر غائب تماماً في الفكر الغربي، وهذا من اكبر صور قصور الحضارة الغربية – كما سنري في موضعه .. المهم أن القراءة الصحيحة للواقع، لاتقوم على مجرد رؤية أحداث الواقع، وانما تقوم على رؤية الحكمة من وراء هذه الاحداث ..وإذا لم يكن هنالك ايمان، بوجود حكمة، وراء احداث الواقع - وهذا ما عليه الفكر الغربي في معظمه – فلا يمكن ان تكون هنالك قراءة صحيحه للواقع، وانما ينظر الى أحداثه كأحداث عشوائية، اعتباطية، وهذا جوهر ما يقوم عليه فكر مابعد الحداثة.
علينا أن نصطحب هذه النقطة معنا، دائماً، لانها تشكل جوهر الاختلاف بين الفكر الاسلامي، والفكر العلماني..