إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٤)

خالد الحاج عبد المحمود


الإسلام كنظرية نقدية

الإسلام كنظرية نقدية
نقد الواقع


نماذج من قراءة الواقع


لقد ذكرنا أن الوجود، يحكمه قانون واحد، هو الارادة الالهية المتفردة .. وقلنا ان الوجود كله سائر الي الله، أو مسير اليه، وفق هذا القانون الواحد .. وهو وجود طبيعته واحدة، ليس فيه اختلاف نوع، وإنما كل إختلاف فيه هو اختلاف درجة .. والحركة في الوجود حركة، تطورية، من الجهل الى العلم، ومن الباطل الى الحق، ومن التعدد الى الوحدة، ومن الكثافة الى اللطافة.. فكل الذي يفنى في الوجود، هو الوجه الغليظ من الاشياء .. وغاية الوجود، هي تحقيق الانسان – الخليفة - وهي غاية تتحق، في مراحل، أو دورات لولبية .. وكل ذلك ذكرناه، وهو مما يعين، إعانة فعالة، على قراءة الواقع ، ومعرفة حكم الوقت .
والمنهج الاساسي، في معرفة حكم الوقت، وفي المعرفة عموماً هو "الكشف" ويجب الا يكون هنالك غموضاً، في استخدام المصطلحات.. فالكشف ببساطة هو ظهور الحقائق، من العقل الباطن الى العقل الواعي .. والعقل الباطن، في الدين، هو القلب .. وكل المعرفة، سواء دينية أو غير دينية، هي تقوم على هذا الكشف .. وكل ما هنالك، ان للدين منهاج علمي و عملي لا يتوفر في المجالات الاخري .. ومنهاج الدين في المعرفة، يقوم علي قوله تعالى: (واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شئ عليم) .. وأهم مايقوم عليه هذا المنهاج، هو انه لا يفصل الاشياء، عن بعضها البعض – كما تفعل الحضارة الغربية – وانما هو يعمل على توحيدها .. واهم مايعمل على توحيده هو الزمن نفسه .. فهو يوحد الزمن كله، في اللحظه الحاضرة، فهي وحدها الزمن الحقيقي، وكل ماعداها هو زمن باعتبار الحكمة .. وخلاصة هذا التوحيد، هي أن الكون كله موجود في كل جزء منه .. والزمن كله موجود في اللحظه الحاضرة .. ولذلك، المستقبل موجود في الحاضر، في صورة جنينية، يستطيع العقل ان يراها، وهذه من أهم جوانب معرفة الواقع.
إن الواقع الذي يعنينا هنا، كما سبق أن ذكرنا، هو الواقع الحضاري، والمستويات الاخرى، بما فيها الواقع الفردي، تتبع، ولذلك سنجعل حديثنا قاصراً عليه

نماذج من قراءة الواقع الحضاري:
نقد الواقع يقتضي التمييز بين ماهو في طور الفناء منه، ولم يعد مما ينفع الناس، وما هو في طور التشكل، وينتظر ان تكون له السيادة، بل وينبغي ان تكون له السيادة، لانه الحق حسب حكم الوقت الجديد، ولانه مما ينفع الناس .. بل في بعض الحالات لا يمكن لحياة الناس ان تستقيم من غيره.. وهذا الاخير – الذي لا يمكن لحياة الناس ان تستقيم من غيره – هو الأهم .. ونحن هنا سنورد بعض النماذج لقراءة الأستاذ محمود، للواقع، وهي قراءة تقوم على التوحيد، والمعرفة بحكم الوقت، ثم هي منطقية وواضحة، للعقول المختلفة .
إن اهم مرتكزات، قراءة الأستاذ محمود للواقع الحضاري، يمكن أن تلخص في النقاط التالية:
1/ إن حكم الوقت يقضي على البشرية، على مستوي الكوكب الارضي أن تتوحد .. وهذا يحدث لاول مرة في التاريخ، وهو يشكل التحدي الأساسي، لاي فكر او دين يطرح نفسه، كما هو يشكل التحدي الاساسي للحضارة القائمة .
2/ وحدة البشرية، تقتضي، ان يلتقي الناس على ما يجمع بينهم وهو العقل والقلب، أو الفكر والخلق، وان يتجاوزوا تماماً ما يفرق بينهم، وأهم مايفرق، اعتبارات: العنصر والجنس، والعقيدة، واللون، والتفاوت في الحقوق والواجبات، خصوصاً في السياسة والاقتصاد .
3/ إن جوهر ماتقتضيه الوحدة البشرية هو السلام .. السلام الفردي، والسلام في المجتمع .. والسلام، يقتضي كل ماذكر في النقطة الثانية، واكثر!! وهو يقتضي بصوره خاصة زوال جميع اسباب الحرب، والعنف، والعدوان، في النفس البشرية، وفي المجتمع البشري.
4/ الحضارة الغربية، ادت دورها التاريخي .. أدته حتى استنفدته .. ودورها التاريخي، الذي قامت عليه حكمة دخولها الوجود، هو اخصاب الحياة المادية، الحياة الدنيا، وتوفير الوسائل العلمية والتكنولوجية الضرورية، لهذا الامر .. ثم رفع وعي الافراد بالصورة التي تجعلهم يتطلعون الى إشباع حاجاتهم الفكرية والروحية، وتحقيق انسانيتهم .. وقد فعلت الحضارة الغربية كل ذلك، ولم يعد عندها ماتقدمه، خارج الاطار المادي، والاطار المادي لم يعد وحده كافياً، فلابد من حضارة جديدة، تستجيب لتحديات الواقع الجديد .. ونذكر بالقاعدة الاساسية في التغيير، وهي: كل الذي يفني هو الصور الغليظة للاشياء، ومايبقى هو ماينفع الناس .. ونعتقد أن الحضارة الغربية بلغت نهاية تطورها، في النصف الثاني من القرن العشرين.. ثم أخذت – بمقياس تحقيق أنسانية الانسان، وحل مشكلاته - تتدهور وتفشل كل يوم جديد .. بل اخذت تتخلى عن بعض قيمها الايجابيه، وبدلاً عن حل المشاكل أخذت تخلق مشاكل جديدة، سواء بالنسبة للفرد البشري، أو للمجتمع البشري .. وهذا كله سنبينه في موضعه..
5/ ما يقال عن الحضارة الغربية، كحضارة مادية، يقال عن الدين، وبصورة أوكد.. فالدين بصورته التاريخية، التقليدية، والتي تقوم على العقيدة والاذعان فقط، لا مجال له في الواقع الجديد، ولا يستجيب للحد الأدنى من تحديات هذا الواقع.. فالدين لا يمكن ان يستجاب له، إلا إذا اقنع العقول الذكية المعاصرة، وإلا إذا قدم حلولا عملية لمشكلات الانسانية، وهذا يقتضي أن يرتفع من مستوى مجرد العقيدة، الى العلم.. مع ملاحظة أن الايمان هو المقدمة الطبيعية، لأي علم، مادي أو روحي، ديني أو دنيوي..
6/ خلاصة قراءة الواقع تقول ان البشرية المعاصرة، وصلت الى قمة تطورها البشري، وهي قد تهيأت لدخول عهد انسانيتها. وهذه هي الغاية الكونية، التي يعمل لها الكون كله، وليس الحياة فقط.. يقول تعالى: (وسخر لكم ما في السموات والأرض، جميعا، منه) ويقول: (ولله جنود السموات والأرض).. فقوى الخير، وقوى الشر جميعها، مسخرة للإنسان، مسخرة له، لتحقيق انسانيته، وليبرز الى مقام عزه، كخليفة لله في الأرض.. وقد استعدت الأرض لهذا النبأ العظيم، وليس لها عنه مندوحة فإن الله بالغ امره .
والآن لنرى، من أقوال الأستاذ محمود ما يؤكد هذه النقاط الخاصة بقراءة الواقع الحضاري، وما تقتضيه هذه القراءة.. أو بعبارة أخرى نقد الواقع.