إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٩)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
الكلمة:
نحن هنا لاتعنينا قضايا علم اللغة الحديث، ومدارسه المختلفة، ولا مصطلحاته الفنية.. ولذلك سنبدأ بالحديث عن (الكلمة) كأساس للغة، رغم الاختلاف في ذلك مع بعض اللغويين.. فالكلمة في المفاهيم التقليدية للغة، تقوم الى حد كبير على مفهوم الثبات، والدلالة الواضحة المحددة، وفي كثير من الحالات الدلالة الواحدة.. فعلماء البلاغة، وغير قليل من علماء الشعر، ينظرون الى الكلمة باعتبارها نظاما مغلقا له اسواره، وهكذا نعود في فهم الكلمات الى تسجيلات العلماء.. صحيح أن بعض الكلمات تحتفظ بدلالات لها حظ من الثبات، ولكننا نسرف اذا اعتقدنا ان معظم الكلمات التي نستخدمها، ونتحاور حولها، ونصنع منها ثقافتنا، لاتتحرك، وتتحول في الخفاء.
كل شئ في البلاغة التقليدية كان يقوم على الزعم بأن الكلمات لها معاني ثابتة.. لكن علم اللغة في الفكر الحديث، هو عالم التقاطع والتواصل.. فالثبات لا وجود له، والقيام عليه، أمر أصبحنا نعاني منه في حياتنا المعاصرة، خصوصا في عالمنا العربي والاسلامي، وبصورة أخص في التعامل مع النصوص الدينية.. وعن ثبات وحركة المعنى جاء من أقوال د. صلاح فضل: "فإذا عدنا الى نظرية سوسير في اللغة باعتبارها منطلقا لبلاغة الخطاب الجديد، وجدناه يتصورها على أنها نسق من العلامات غير السببية، كل شئ فيه علاقة وتخالف وهو يعني بذلك أن أي دال من الدوال لايؤدي وظيفته بوصفه صوتا له دلالته المباشرة على الشئ أو معنى ما.. بل بوصفه في جوهره مختلف عن غيره من الدوال".. ومعنى هذا أن معاني الكلمات تتوقف على موقعها من الجمل، واختلافها عن غيرها، وهذا يؤدي الى طرح الفكرة الشائعة منذ ارسطو القائلة بأن لكل كلمة معنى جعلت له. وأهم من ذلك فإن هذه النظرية هي التي تفسر بوضوح قدرة الكلمات، مهما جمدت معاني الألفاظ في المعاجم، على خلق معاني جديدة، وهذا هو صلب عملية التوليد البلاغي.. ويلاحظ مصطفى صفوان أن الناقد الانجليزي ريتشاردز ينقد بصورة لاذعة الرأي القائل بأن الكلمة تملك معناها الثابت مثلما تملك حروف هجائها.. ففكرة المعنى الثابت لا تصدق الا على بعض فروع العلم مثل هندسة اقليددس، وهو يقترح بدلا منها فكرة (حركة المعنى) بما هي حركة ذات أثر رجعي، لا يتبين بمقتضاها معاني الكلمات إلا بانتهاء الجملة أو المقال.. إن الكلمات يعتمد بعضها على بعض.. وفهمنا لهذا الاعتماد، في نظر علماء اللغة المحدثين، هو الذي يهدينا الى معانيها ودلالاتها.. ولذلك فإن فهم اللغة يعتمد على استعمالها بل أكثر من ذلك يعتمد على استعمال الكلمات الأخرى، التي تصاحب الكلمة التي يراد فهمها.. وعلى ذلك، فإن قيمة الشكل البلاغي ، كما يعبر د. صلاح فضل، ليست معطاة في الكلمات التي تتكون منها، إذ أنها تتوقف على الهامش القائم بين هذه الكلمات، وبين ما يتلقاه القارئ منها في ذهنه متجاوزا لها في الآن ذاته.. إنها عملية تسام أو تجاوز.. إن التجاوز هو تجاوز لما هو وضعي وتأريخي.. إن عملية ادراك المعنى الذي يتبدى من الكلمات في وجوهه المختلفة، هي عملية مزاوجة بين ما هو تاريخي، وما هو آني، وبين ما هو جوهري، وما هو عرضي.. وعدم ثبات المعنى، وتبادل الوجوه فيه ليس فوضى، وإنما يقوم على ضوابط، تبدأ من الدلالة التاريخية والوضعية للكلمة، والغرض والهدف الذي من أجله تستخدم.. يقول د. مصطفى ناصف: "إذا كانت الكلمة تجاوزا للتاريخ، يشفع لمبدأ الوجوه، فالوجوه لا يمكن ان تلغي فكرة (الحدود).. وفي الحقيقة ان مفهوم الكلمات.. يختلف باختلاف الأغراض المنوطة بها.. فمقام تعليم الجمهور له مطالبه.. فربما توهم السامعون من الكلمات ما لا ينبغي اذا لم يقاوموا الاعتماد الراسخ بأن الكلمات ثابتة تماما.. وربما يخيل الينا ان الذين يعاصرون النص في نشأته الأولى، هم أولى الناس بفهمه، وادراك حدوده ومراميه.. ولا نستطيع أن نعرف على اليقين كيف تصور السابقون الكلمات حينما سمعوها لأول مرة.. صحيح أن المجتمع يتقبل المعنى ويحتفي به، ولكن هذا لا يقتضي أن نقف عند حد مقرر سلفا، لو افترضنا أن هذا الحد يمكن أن نتصوره. إن المتقدمين فرقوا تفرقة حسنة بينة من الناحية العلمية، بين تاريخ الكلمة وعلوها"
كيف ندرك الكلمات؟ هل ندركها بصفتها المفردة أو الخاصة أو خلال التجريد؟ وما هي العلاقة بين الكلمات والخبرة؟ إن التعامل بالعادة مع قضايا اللغة يجعلنا لا ننتبه لهذه الأمور.. فنحن عندما نرى شيئا من الأشياء، قل كتابا، أو قلما، نتصور اننا ندركه كشئ قائم بذاته، ومنفصل عن الأشياء التي سبق أن رأيناها، فالقلم هو قلم مثل تلك الأقلام..
فالأمر على خلاف ما يبدو لأول وهلة.. التعميم والتجريد سابق على الحالة الفردية. فنحن لا ندرك كلمة قلم إلا بعد عديد التجارب مع اقلام مختلفة، تأخذ من خلالها فكرة القلم مدلولها عندنا.. يقول دكتور مصطفى ناصف: "نحن حينما نرى شيئا من الأشياء ندركه بوصفه فردا من نوع أوفئة أي اننا لا نستطيع أن ندرك شيئا في ذاته منفصلا أتم الانفصال عن غيره من الأشياء التي رأيناها من قبل.. وبعبارة أخرى عندما نقول هذه شجرة، فإننا نقصد من ذلك بأن ما نراه مثل من أمثلة الشجر كلها، أي ان الشجرة الموجودة امامي الآن تحيل على فئة الأشجار او لونها.. ونحن إذن ندرك باستمرار من خلال العام والمجرد.
لنفترض اننا نقول: "لكراسة الموجودة امامي". هذه العبارة خاصة ومتميزة عن "الكراسة التي معك" أو سائر الكراسات.. ومع ذلك فلننظر في العبارة مرة اخرى.. الكلمة الأولى إحالة على نوع الكراسة، والثانية إحالة على نوع تسمية الوجود، والثالثة إحالة على فكرة الأمام... أي أن فكرة الكراسة والوجود والأمام، موجودة في الذهن.. وكل ما هو موجود في الذهن يسترجع بطريقة ما، في لحظة معينة، ولكن لا يسترجع هكذا ببساطة، لأننا ندرك الفرق بين هذا الموقف والمواقف السابقة في نفس اللحظة.. ومعنى هذا، أن الخبرات يعاد بناؤها أو تشكيلها باستمرار، فمعاني الكلمات من هذه الناحية عبارة عن خبرات ينوب بعضها عن بعض ويؤثر بعضها في بعض..".. وهذا يؤكد أن المعرفة تذكر!! فالمثير الخارجي، يبعث معنى في الذهن، مبني على خبرة سابقة ولولا وجود هذه الخبرة، لا ينبعث أي معنى.. فالانسان، مثلا، عندما يسمع كلمة ، من لغة لا يدركها، لا تبعث في ذهنه أي شئ، لأنه اساسا لا توجد الخبرة التي يفترض أن تبعثها الكلمة.. ولكن العملية ليست عملية آلية، وإنما هي علاقة معقدة بين الخبرة السابقة، وبين الموقف المستحدث.. فإثارة الخبرة، لا تتم بنفس الصورة التي هي بها كامنة، وإنما هنالك دائما ما هو جديد.. فالعلاقة بين المعنى، أوالخبرة الكامنة، والمثير، علاقة جدلية، يتم فيها التزاوج بين أمرين، تكون ثمرته وليد جديد، يأخذ خصائصه من الطرفين وليس من أحدهما دون الآخر.
والنشاط اللغوي يقوم على ثلاثة أركان، متفاعلة فيما بينها، هي: الذات، والموضوع، والوسيط اللغوي، ولا يمكن أن يتم فهم طرف من هذه الاطراف، دون بقية الأطراف الأخرى.. إن المتكلم في الواقع يضفي على الكلمات مما في عقله وقلبه، وكذلك المتلقي، السامع، أو القارئ، وهما طرفان اصيلان في العملية اللغوية، ولا تأخذ اللغة أبعاد دلالتها الا بهما.. ومحاولة إبعاد، أي طرف منهما، كما فعلت بعض المدارس الحديثة، مجرد عبث، خصوصا المتكلم، أو الكاتب ، فهو الأصل.
فالنشاط اللغوي نشاط هادف، فنحن نتكلم في العادة، أو نكتب من أجل أن نبلغ هدفا، وهذا الهدف يؤثر لامحالة فيما نقول أو نكتب.. وعلاقة الهدف بالمعنى تجعلنا نتخير الكلمات التي تحقق ما نريده من هدف، ونجاحنا أو فشلنا في ذلك مرتبط بمقدرتنا على التعبير، أو حسن استخدام اللغة.. وحسن ادراك السامع أو القارئ لما نرمي اليه، رهين بحسن استخدامنا للغة، ومقدرته هو على الإدراك، وثقافته، ومعرفته بأساليب اللغة.. وهنالك العديد من العلاقات الدقيقة، المؤثرة، في هذا الصدد.. فمزاج القارئ ورغبته، وتقديره للكاتب، أو المتكلم، وتعاطفه معه، أو نفوره، واهتمامه بالموضوع، أو عدم اهتمامه، الى خلاف ذلك مما يؤثر تأثيرا كبيرا على ادراك القارئ أو السامع.. وفي كثير من الحالات، يدرك القارئ، أو السامع، ما يريد هو أن يدركه، لا ماتم قوله، او كتابته، فعلا.. وهذا يظهر بصورة خاصة، عندما يكون القارئ، او السامع، منحازا، وله أفكار مسبقة، فانحيازه يجعله يؤل الكلمات، والنصوص، بالصورة التي يريدها هو أن تكون عليه، حتى لو كانت تأويلاته هذه عكس الواقع، وفي كثير من الحالات يتم هذا بصورة غير ارادية، فهو فعلا، يتوهم أن الأمر كما يراه!!
والكلمات المستخدمة في النشاط اللغوي، لا تكون متساوية في اهميتها.. فهنالك كلمات، لها اهمية خاصة، وتكون بمثابة المفتاح للجملة، أو للنص عموما.. وهذا ينطبق بصورة خاصة، على الكلمات التي تستخدم استخداما اصطلاحيا، في إطار مفاهيم خاصة.. فمثلا كلمة (توحيد) بالصورة التي نستخدمها بها، كلمة يتوقف على فهمها، فهم جميع ما كتبناه، وما نكتبه.. والكلمة الواحدة قد تعبر عن مستويات من المعاني، جد متفاوتة، خصوصا في النصوص الدينية.. فمثلا كلمة (استقامة) ، قد تعني للمؤمن العادي، ترك المعاصي الظاهرة، ولكنها بالنسبة للنبي الكريم، تعني أكثر من ذلك بكثير جدا، حتى أنه قال: "شيبتني هود واخواتها"، مشيرا الى قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت).. فالاستقامة كلمة واحدة، ولكن دلالتها، تختلف، اختلافا هائلا بالنسبة للمؤمن العادي، وبالنسبة للنبي الكريم.. كما أن دلالة الكلمات، تختلف اختلافا كبيرا ، حسب اختلاف الثقافات، وهذا ما سنتعرض له لاحقا.