إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٩)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
اللغة كحجاب
اشكالية النص:
لقد اطلعت على كتابة أحد القراء، وهو يعلق على كتابتي، يزعم فيها أن الاستاذ محمود ، لم يأت بقضايا، مثل (وحدة الوجود) و(الانسان الكامل)، وحتى (رسالة الاسلام الثانية)!! وإنما أخذها من بعض المتصوفة السابقين، وتحدث حتى عن هيجل والمثاليين الألمان.. ونسي أن يذكر (نيتشة) فهو أشهر من تحدث عن (الانسان الكامل).. (السيوبرمان) .. فالكثير جدا من المحدثين يتحدثون، عن (الانسان الكامل)، من منطلقات تقوم على تصورات تطور العلم التجريبي.. وما قاله هذا الأخ هو نموذج للتفكير بالكلمات، او المصطلحات.. وهو مجرد أن وجد مصطلح (الانسان الكامل)، مثلا، عند عديد المفكرين ينصرف ذهنهم مباشرة الى أن هؤلاء المفكرين، لابد أنهم ينقلون عن بعضهم البعض هذه الفكرة.. وهو يتجه هذا الاتجاه، دون أن يحاول، مجرد المحاولة، للوقوف على ما يقوله، كل من المفكرين عن الموضوع!! وهذا نموذج لحجاب اللغة.. ولو فكر هذا القارئ في المحتوى، لوجد أن هنالك اختلافات جذرية، لمعاني المصطلح، عند المفكرين المختلفين.. فالانسان الكامل عند الاستاذ محمود، وعند نيتشة، رغم أن المصطلح واحد، إلا أن دلالة المصطلح عند كل واحد منهما، هي نقيض ما عند الآخر.. وطبيعي أن تكون هنالك أرض مشتركة بين المتصوفة، لأن المصدر واحد.. ولكن حتى عند هؤلآء في كثير من الحالات، الاختلاف في مستويات المعرفة هي من العظم، بحيث تشكل اختلافا جذريا بالنسبة لفهم المصطلح الواحد، والتعامل معه.. فالفكرة الجمهورية تنطلق من مفهوم التوحيد، وكذلك تزعم الدعوة الوهابية، ولكن مفهوم (التوحيد) في الدعوتين، لا يكاد يلتقي إلا في الشكل.. أكثر من ذلك، لأن المعلم واحد، كثيرا ما يكون هنالك تشابه، وتوافق في عموميات بعض الأفكار، بين أناس، لم يسمع بعضهم ببعض.. وهذا، أمر واضح جدا، عند الذين يدرسون الأدب المقارن، فمثلا (رسالة الغفران) للمعري، و(الكوميديا الإلهية) لدانتي، يكاد يكون موضوعهما واحد، وحتى بعض التفاصيل متشابهة.. وفي دراسة الحضارات القديمة، توجد كثير من العناصر، المشتركة، بين حضارة وأخرى.. فمثلا نجد الاهرامات في حضارة الإنكا، والحضارة الفرعونية، وهما نشأتا في وقت واحد تقريبا، إلا أن الأولى في امريكا الجنوبية والثانية في افريقيا!! وحتى في العلوم الطبيعية، يحدث أن يصل عالمان لنفس النتائج دون أن يعرف أحدهما شيئا عن الآخر.. ولذلك، لا يكفي للمقارنة بين المفكرين، والأفكار، ذكر استخدام مصطلح مشترك، ولابد من تحديد المفاهيم والمقارنة بينها.. فالعبرة، كما قلنا، ونكرر، ليست بالنص وانما بفهم النص، فالنص في القرآن واحد، ولكن الفهوم حوله تتفاوت تفاوتا كبيرا.
وآخر.. كتب بجريدة الصحافة يطيب له أن يسمي نفسه (الشيخ)!! عمر الأمين، زاعما أنه يصحح الفكرة الجمهورية!! وهو لم يتحدث عن الفكرة، بشئ يحتاج أن يرد عليه، أو يستحق أن يرد عليه.. وحسب علمي لم يرد عليه أحد من الأخوان الجمهوريين.. وأنا هنا، لست بصدد الرد عليه.. ما أنا بصدده، عرض نموذج للتعامل مع النص.. فهذا (الشيخ) يتعامل مع النص من خارجه!! ويضفي عليه من المعاني، مايتناقض مع معناه الظاهر، على اعتبار أن هذه هي استنتاجاته الشخصية!! وهو يقول ذلك صراحة، فهو يقول مثلا: ".. ولا عبرة بدفوعات تتساءل عن نصوص صريحة تؤدي الى هذا الفهم، فإذا ماتوفرت امكانية استخراج استنتاجات على هذه الشاكلة عن هذه (الفكرة) فذلك مما يضعف فصل خطابها، ويخرجها من نسق بيانها، رغم تحريه جوامع الكلم"!! هذا المنهج، الذي يتحدث فيه صاحبه عن النص من خارجه، وينسب له ما يتناقض معه تماما، يسميه صاحبه (منهج علمي) .. وعن غيره يقول: "والعلم ليس على كيفكم"!! .. نورد نموذجا آخر، لفهم (الشيخ)، وتعامله مع المصطلح.. من المعلوم أنه عندما قامت الحركة الوطنية في السودان، كان هنالك اتجاه قوي عند بعض الأحزاب، لأن يكون النظام السياسي في السودان، نظاما ملكيا.. وكان رأي الجمهوريين، هو أن يكون النظام في السودان، نظاما جمهوريا.. ومن هنا جاء اسم الجمهوريين. وقد رفض الاستاذ محمود، أن يتخذ الحزب اسما دينيا، رغم أن اتجاهه منذ البداية كان للاسلام.. وقال تسمية الحزب باسم ديني ينطوي على نوع من الارهاب الفكري، فالتنظيم ينبغي أن تعرف اسلاميته من سلوك أعضائه، ومن محتوى فكره، وليس من التسميات.. وقد كان الحزب الجمهوري، أول تنظيم في السودان، يدعو للنظام الجمهوري. وعندما تم الاستقلال ، اختار السودانيون بحمد الله النظام الجمهوري... ولكن (الشيخ) له رأي آخر.. فهو يرفض مصطلح جمهورية، على اعتبار أن أصله غربي، أو افلاطوني!! اسمعه يقول: ".. والاستعمار الأوربي الذي أطبق على العالم من أقصاه الى أدناه، ُثم سحب عليه بساط جمهوريته فكساه بها شاء ذلك أم لم يشأ.. والغريب المريب في الأمر أن للأستاذ الشهيد محمود تاريخ ناصع وضئ في منازلة هذا الاستعمار ومناهضته وجهاده، فكيف فلتت وتسربت اليه هذه الجمهورية، فهذا ما يحيرني حيرة مطبقة شديدة)!! - النصوص المنقولة عن الشيخ مأخوذة من كتابته بجريدة الصحافة عدد 23 مارس 2007 - إن هذا النص وحده كاف لتقييم الشيخ وتقييم فكره، إن كان هنالك فكر.. الشيخ تعامل مع المصطلحات بأصلها لا بمعانيها، ودلالتها، وحقها أو باطلها!! فكلمة جمهورية عنده أصلها إفلاطوني.. وهي - الجمهورية - تسربت من الاستعمار الذي كافحه الأستاذ!! أضف الى ذلك ان الشيخ يرى خطأ استخدام مصطلح جمهورية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل به، فهو يقول: ".. فإي (جمهور) وأي (جمهورية) دع عنك أنه خبر جديد ، لم يقل به المصطفى" .. إذا فكل خبر جديد، لم يقل به المصطفى، في زعم الشيخ، هو خطأ، وينبغي عدم العمل به!! والتعامل معه؟! وهذا يرجعنا الى ما قلناه، من أن العبرة ليست بمجرد النص، وإنما بمعنى النص، أو المصطلح.. فالشبخ نفسه، وفي كتابته هذه، يستخدم العديد من المصطلحات التي لم يقل بها المصطفى.. ومن قال لك أن المصطفى لم يقل بالجمهورية؟! لقد قال بها، في معنى ما قال: " خيرت بين أن أكون نبيا ملكا، أو أكون نبيا عبدا، فاخترت أن أكون نبيا عبدا".. وقال بها، في معنى ما قال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم قال: خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين".. فالنظام الجمهوري، في وقتنا الحاضر، من العرف الصالح.. وقال بها حيث قال: " الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق بها".. فهو لم يأمرنا بأن نأخذ الحكمة، حسب مصدرها، ,وإنما على العكس من ذلك قال: "أنى وجدها فهو أحق بها".. وقال: "اطلبوا العلم ولو في الصين" .. وليطبق الشيخ فهمه هذا العجيب، على القرآن .. اليس مصدر لغة القرآن، ومصطلحاته، هو لغة العرب في الجاهلية!؟ بل أكثر من ذلك، ألم يستخدم القرآن العديد من الألفاظ، التي ترجع الى مصادر لغوية غير العربية!؟ وإذا رجعت لنص الشيخ كله، وجدته شديد الركاكة، خال من الموضوعية، والضبط، فمثلا قوله "الاستعمار الأوربي الذي اطبق على العالم من أقصاه الى ادناه، ثم سحب عليه نظام جمهوريته فكساه بها، شاء ذلك أم أبى"!! هذا تعميم، يدل على جهالة بأبسط الأمور.. فحتى تلاميذ المدارس يعلمون، أن أكبر دولة استعمارية كانت بريطانيا، وهي التي كانت تستعمر السودان، وهي لم تكس السودان بنظام جمهوريتها، لأنها لم تكن جمهورية أساسا.. وهي كانت تريد للسودان، أن يكون به نظام ملكي، تابع للتاج البريطاني.. فإذا كنت تجهل هذه الأمور البسيطة، فأنت بغيرها أجهل.. ثم هل الشيخ صادق فيما يقول!؟ أم هو يكذب على نفسه، وعلى الله وعلى الناس.. هل الشيخ لا يستخدم فعلا، في كلامه، وفي حياته، ما مصدره غربي، أو استعمار، أو حتى مصدره كفار!؟ قطعا هو يفعل ذلك، فهو يتعامل مع الصحافة ومع الانترنت، والتلفزيون... ألخ ويأكل ويشرب ما مصدره ليس افلاطون، وإنما الصين، وامريكا، وغيرها من الدول.. هل المعصوم ذكر كلمة بنك، أو تعامل مع البنوك، فلماذا يتعامل الشيخ مع البنوك!؟ .
وهذا الانعزال عن الحياة، اذا أمكن، وهو قطعا غير ممكن، هل هو فضيلة!؟ هو قطعا ليس كذلك.. لو كان الشيخ منقطعا للعبادة، في خلوة، كنا نجد له بعض العذر في جهالته هذه.. ولكنه (زول سوق) وأنا أعرفه تماما في هذا الجانب، فهو من أقاربي.. وبالمناسبة هو ليس شيخا بمعنى السن، وإنما هو شاب.. فهذه الشياخة، التي يصر عليها لزوم الدين!!
إن علم هذا الشيخ جهل، فكيف بجهله؟! وقديما قال السيد المسيح: "إذا كان النور الذي فيك ظلام، فالظلام كم يكون"
ولما كان ليس في اعتبار الشيخ، المحتوى والموضوعية، ولا التوثيق وإقامة الدليل، فإنما المهم عنده فقط، المصدر، فهو يعتمد اعتمادا كليا على شياخته، وصفاته الدينية الأخرى، على اعتبار أنها الضمان الأكبر، للوثوق في المصدر وصحة ما يصدر عنه، وهو لا ينظر الى القرآء ، أكثر من نظرته (للحيران) يفترض فيهم الوثوق في مرجعية الشيخ كمصدر نهائي ووحيد للحقيقة. فإذا قال التاريخ، أن نظام الحكم في دولة بريطانيا الاستعمارية، نظاما ملكيا، وقال الشيخ خلاف ذلك، فعلى القرآء، (الحيران)، أن يتأكدوا من خطأ التاريخ، وصحة قول الشيخ.. وإذا قال جميع العالم، أن النظام الجمهوري، هو أفضل أنظمة الحكم، في الوقت الحاضر، ورأى فيه الشيخ، أنه نظام يبعث على الريبة، ويؤدي الى الحيرة المطبقة الشديدة - حسب تعبيره - فعلى القرآء أن يروا ما يرى، خصوصا اذا ارتبط هذا النظام بالاسلام مثل جمهورية ايران الاسلامية. هذا المبالغة في الذاتية هي سمة اساسية من سمات الهوس الديني، كما سنراه في موقعه.
تبدو ظاهرة (الشيخ) ظاهرة محيرة ولكننا اذا وضعناها في اطارها، يمكن أن تصبح ظاهرة مفهومة الى حد ما.. وإطارها، هو الهوس الديني، وانحطاط التصوف، ونحن سنتحدث عنه، عندما نتحدث في هذين المجالين، رغم أنه، حتى في هذا الاطار، ليس له وزن ولا خطر، ولكن هذا هو الجانب الذي سنتناوله فيه بالذات ..
ففي إطار الهوس الديني، وانحطاط التصوف، لأن الأمور الموضوعية تتحول الى ذاتية، يكون هنالك غياب للفكر، وغياب للوعي بصورة كبيرة، حتى أن الأفراد عديمي المواهب لا يرون لأحد غيرهم موهبة. فالشيخ مثلا، ليس معني بمحتوى ما يقول، وانما يعنيه أكثر أن هذا القول، هو الذي قاله، وهو عند نفسه: الشيخ وصاحب الأمانة الروحية، والشريف سليل الأشراف.. وهذا كله تحدث عنه.. قد يبدو للقاريء أننا بعدنا عن موضوعنا، لكن الحق خلاف ذلك.. فقضية (الشيخ) كلها مرتبطة بقضية النص، والمصطلح.. فالمحور الذي يدور حوله (الشيخ) في كل ما كتب هو (نفسه) ومن خلال مصطلح صوفي ، استخدم أشنع استخدام، هو مصطلح (الأمانة)!! فالشيخ يزعم أنه صاحب (امانة) روحية، وينطلق من هذا الاعتبار.. ونحن لا تعنينا أمانته الروحية، وإنما تعنينا ثمرتها، إذا كانت هنالك ثمرة.. الذي يعنينا هو كيف تقدم هذه الأمانة، حلولا موضوعية، مقنعة، وعملية لمشاكل الحياة.. وتهمنا الأمانة السلوكية، والفكرية، ومن خلال وجودهما، أو غيابهما، نستطيع أن نحكم على وجود، أوغياب الأمانة الروحية، ولا يمكن يكون غياب أمانة الدنيا، دليل على وجود أمانة الدين.. هذا بالطبع في اطار العقل السليم، اما في اطار الهوس الديني كل شئ ممكن ولا توجد فواصل بين المعقول، واللامعقول.. وهذا ما سنراه عندما نتحدث، عن الهوس الديني.
نحن نكتفي هنا، بهذا القدر من حديثنا عن موضوع اللغة.. وهنالك العديد من المجالات التي كان يمكن أن نتعرض لها ولكننا لما كنا فقط بصدد، التمهيد للحديث عن النص الديني، وسند الفكرة من النص فهذا الحد من الكتابة كاف لما نحن بصدده، وستضح ابعاد القضية بصورة أكبر، عندما نتحدث عن القرآن والسنة، وهو موضوعنا التالي.