إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٩)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
اللغة كحجاب
اشكالية النص:
قلنا إن اللغة وسيلة تواصل، تحمل رسالة بين طرفين.. والتعامل معها لايكون دائما ايجابيا من قبل الطرفين، فهي قد تكون وسيلة عزل، بدل تواصل، وذلك حسب الاستخدام من قبل المتكلم، أو الكاتب، أو حسب الادراك، والتفسير من قبل المتلقي.. وهذا قد يتم بسبب العجز والقصور، أو بسبب الغرض وعدم الأمانة.. ولكل ذلك، القاعدة الأساسية والهامة جدا هي: فهم النص، وليس مجرد النص.. وفهم الكلمة، أو المصطلح، في إطار استخدام الكاتب أو المتكلم لهما..
وفي عالمنا المعاصر، تستخدم اللغة، بمعناها الواسع، بصورة كبيرة للتضليل، وتزييف الوعي، خصوصا في مجالات الدعاية التجارية، ومجالات السياسة والدين.. ويكاد الخطاب الديني والسياسي، أن يلحقا بالدعاية التجارية، في أساليب الاستخدام، وأغراض الاستخدام.. ويستخدم النص الديني، عند جماعات الاسلام السياسي، والهوس الديني، بصورة خطيرة جدا، تناقض جوهر الدين ومسلماته الأساسية.. ففي كثير من الحالات، أو في الواقع، في معظم الحالات، يستخدم النص الديني في الوصول الى السلطة، وفي تحقيق مطامع دنيوية ذاتية ضيقة، وأكل أموال الناس بالباطل.. بل أكثر من ذلك، وأخطر من ذلك اصبح النص الديني وسيلة للاغتيالات البشعة، وبصورة واسعة، تحت اسم الجهاد!! وهو اغتيال، يطال حتى الأبرياء من المسلمين انفسهم، بما فيهم الأطفال، والنساء، والشيوخ!! ولذلك يجب أن لا يستهان بسلطة النص، وبخطورة سوء استخدامه.. والقاعدة الذهبية، والهامة جدا هي: العبرة بفهم معنى النص وليس بمجرد النص، خصوصا بالنسبة للنص الديني، لما تحيط به من قداسة.. وكل متحدث، او كاتب، انما يقدم فهمه هو للنص، وهو فهم قد يكون خاطئا أو صائبا، فينبغي ان لا يترك ليحتمي بقداسة النص، عن تحديد المفهوم الذي يريده هو باستخدامه للنص.
وحتى بالنسبة للمثقفين المدنيين، تستخدم اللغة في هذه الحالات بصورة يغيب فيها الفكر.. وتغييب الفكر، هذا ينطبق بصورة خاصة على المصطلحات، وصور الموضة في التعبير والتي تظهر من وقت لآخر، عند من يسمون المثقفين، والتي يكون فيها كثير منهم، مجرد أبواق، يرددون ما يجري في الثقافة الغربية، بصورة جد خاوية!! وأمر استخدام المصطلحات، امر هام جدا، وهي في الكثير من الحالات، تكون، مفاتيح للنص.. وفي إطار سيادة الحضارة الغربية، وثقافتها، لا بد من استخدام مصطلحاتها، ولكن لابد أن تستخدم بوعي حقيقي لدلالاتها، وما يمكن أن تنطوي عليه من أبعاد سلبية، مرتبطة بطبيعة الحضارة التي انتجتها.. الرفض المطلق، لهذه المصطلحات، أمر خاطئ وهو غير ممكن، كما أن القبول المطلق لها، هو ايضا أمر خاطئ.. فعندما نستخدم هذه المصطلحات لابد أن نخضعها للمفاهيم التي نريدها ونحدد هذه المفاهيم بصورة جلية.. وكثير من المصطلحات التي لها اهمية خاصة في الثقافة الغربية، ليس متفق على دلالاتها، حتى عند أهلها - ما عدا المصطلحات الفنية بالنسبة للعلوم الطبيعية - فمثلا مصطلحات مثل (ثقافة) و (حداثة) و (لبرالية) و(أصولية) الى غير ذلك من المصطلحات التي تستخدم في علم السياسة، والاجتماع بالذات، ليس بالضرورة، أن يكون فهم الغرب لها، هو نفس فهمنا لها.. واذا استخدمناها - ولا يوجد ما يمنع من استخدامنا لها - لا بد من توضيح فهمنا لها، والذي قد يختلف كثيرا، عن المفهوم الغربي.. فنحن مثلا عندما نستخدم، مصطلح العقل الواعي، والعقل الباطن نستخدمهما وفق مفاهيم تختلف كثيرا جدا، عن استخدام علم النفس الغربي لهما، ولذلك نوضح مفهومنا لهما، حتى لا يختلط في ذهن القارئ بالمفهوم الغربي.. وهنالك مصطلحات مضللة جدا، وتستعمل بكثرة، مثل مصطلح (لبرالية) فالكثيرون يفهمون تلقائيا أنها تعني الحرية الفردية دون أي تحديد لمفهوم الحرية الفردية. فاللبرالية بعيدة كل البعد عن مفهوم الحرية الفردية، وهذا أمر سنتناوله لاحقا.. وقد اصدرت الدكتورة زينب عبد العزيز كتابا كاملا، تزيد صفحاته عن المائة وستين صفحة عن مصطلحي: الحداثة والأصولية، وبالرجوع الى العديد من الموسوعات والمعاجم، وضحت اختلافات كثيرة، وكبيرة جدا، بالنسبة لاستخدام المصطلحين.
وهنالك ملاحظة، واسعة الانتشار، تتعلق باستخدام الدعاة الاسلاميين، للنص القرآني.. فالكثيرون منهم يتجاوزون مسألة الناسخ والمنسوخ، تجاوزا تاما، وكأنها غير موجودة، فيستخدمون الناسخ في المواقف التي تروق لهم، والمنسوخ في المواقف التي تروق لهم، دون أي ورع، فمرة يستخدمون آيات الجهاد عندما يريدون الحرب، ثم يستخدمون آيات الاسماح، عندما يريدون أن يظهروا انفسهم بمظهر داعية السلام عندما يريدون ارضاء الغرب!!
وقد أورد الأخ د. القراى في كتابه عن السيد الامام الصادق المهدي حديثا مباشرا، يورد فيه السيد الصادق القرآن، بصورة المتناقض، وفي الحق التناقض في فهم السيد الصادق للقرآن، وليس في القرآن.
واللغة تتأثر كثيرا جدا، باللغات الأخرى، فتتفاعل معها، وذلك نتيجة للتفاعل البشري.. وكل لغة تأخذ من اللغات الأخرى، ما تجعله جزءا من مفرداتها. فاللغة كائن حي، بعض مفرداتها يموت ويندثر، والبعض الآخر، ينمو ويتطور في دلالاته.. والقرآن أدخل العديد من الكلمات التي ترجع اصولها الى لغات أخرى غير العربية.
وعن تطور الدلالة بالنسبة للنص القرآني، أو نص الحديث النبوي، نجد أن هنالك ظاهرة واسعة الانتشار، في وقتنا هذا، تدور حول ما سمي (الاعجاز العلمي في القرآن)، ومن أكثر من يكتبون ويتحدثون في هذا المجال د. زغلول النجار.. والظاهرة تقوم على اعطاء النصوص المتعلقة بآيات الآفاق تفسيرات تقوم على اكتشافات العلم الحديث، لتوكيد معنى أن القرآن من الله، ولا يمكن أن يكون من بشر، لأن المعاني العلمية التي وردت في بعض آياته لا يمكن أن يعرفها البشر في القرن السابع الميلادي، وهي لم تعرف إلا بعد تطور العلم الحديث، ويرددون في ذلك العديد من النصوص.. فمثلا، عندما يقول تعالى: "والبحر المسجور" ، كلمة (مسجور) في اللغة تعني: المشتعل نارا.. والماء والنار في الفهم العادي، خصوصا في القرن السابع، لا يجتمعان ، ولذلك المؤمن، في ذلك التاريخ يؤمن بالنص حتى ولو لم يفهمه من منطلق ايمانه بقدرة الله غير المحدودة.. ولكن في وقتنا الحاضر اصبحت الظاهرة معروفة، من خلال ثورة البراكين، في قيعان البحار، وهم يوردون صورا لها، ويعرضونها في القنوات.. مثل هذا الاتجاه في تقديري مفيد جدا لغير المسلم، وهو بالفعل قد اقنع الكثيرين بأن القرآن لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه بعيد جدا عن اعجاز القرآن الحقيقي، فاعجاز القرآن الحقيقي يتعلق بآيات النفوس.. ونحن هنا لا نود التوسع في الحديث في هذا المجال، وانما اوردناه فقط في اطار حديثنا عن اللغة...
إن الكثير جدا من الاختلافات الفكرية بين الناس يرجع السبب فيه الى اللغة، وبصورة خاصة الى عدم الاتفاق على المفاهيم، أوعدم تحديدها، أو عدم وضوح الرؤية بالنسبة للمفاهيم التي يستخدمها الآخر، وبالتالي تناولها من منطلق مختلف تماما، عن منطلقه، مما يجعل الحوار، حوار طرشان، فيه الأطراف المتحاورة، تستخدم المصطلح الواحد، أو التعبير الواحد بمعاني مختلفة، كل طرف يقف مع المعنى الذي يستخدمه هو، دون أي اعتبار للمعنى عند الآخر.. يقول فتجنستين: "الكثير من المسائل الفلسفية يعود في أصله الى سوء استخدام اللغة من خلال عدم تعريف ما يتم الاختلاف حوله"