إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


وحدة الوجود:


العوالم الثلاثة التى ذكرناها أعلاه، الاختلاف بينها اختلاف مقدار، اختلاف درجة، وليس اختلاف نوع، فمرجعية التوحيد، تمنع اختلاف النوع منعا باتا، وهذا من معانى قوله تعالى (ماترى فى خلق الرحمن من تفاوت) .. فالتفاوت، فى الدرجة والمقدار، أو المظهر، موجود، ولكنه ليس تفاوت نوع، ليس تفاوتا، في اصل طبائع الأشياء.. وحسب هذه النظرية التوحيدية، لا يوجد اختلاف نوع بين المادة والروح.. فالمادة روح في درجة من الذبذبة تتأثر بها حواسنا، والروح مادة في درجة من الذبذبة لا تتأثر بها حواسنا، على النحو المألوف، فالمادة والروح، مظهران لشئ واحد، الاختلاف بينهما اختلاف في الكثافة واللطافة، أو اختلاف في مستوى الذبذبة.. فصورة المادة التي نعرفها ونألفها ، والتي يقوم عليها جوهر الحضارة الغربية، كما اسلفنا، هي وهم من أوهام الحواس.. أقول صورة المادة، التى نألفها ونعرفها، وأعني صورتها، وليس حقيقتها، لأن حقيقة المادة هي إرادة الله.. ولذلك لابد من التمييز بين مظاهر الأشياء، وحقائق الأشياء.
وعلى هذا التصور، الوجود الحادث، إذن هو وحدة.. ووحدة الوجود في الإسلام تعني أنه ليس في الوجود إلا ذات الله، واسماؤه، وصفاته، وأفعاله.. ولذلك كل شئ في الوجود، له دلالة واحدة، ومعنى واحد.. وكلمة "معنى" تفيد ما يدل عليه الشئ، ويقود إليه.. فالمعنى الجامع الشامل لكل ما في الوجود، هو الله.. فكل شئ، وكل حدث، هو يشير إلى الله، ويدل عليه، بصورة من الصور، فهم من فهم، وجهل من جهل.
فالوجود إذن واحد في حقيقته، متعدد في مظاهره.. والمظاهر، هي تجلي الذات.. والذات لكمالها، لا تتجلى لذرتين في الوجود، تجلي واحد.. فالذات لا تكرر نفسها، فالتكرار في حقها نقص، وعبث، تتعالى عنه علوا كبيرا.. فالخلق جميعهم يتساوون في مبدأ، الدلالة على الله، وهذا معنى قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت).. وإنما يأتي التفاوت، من حيث البعد والقرب في الدلالة.. وفي إتجاه وحدة دلالة الخلق على الخالق، يجئ قوله تعالى: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لاتفقهون تسبيحهم).. قوله: "وإن من شئ إلا يسبح بحمده" تعني ما من شئ إلا وهو دال على الله، بتسبيحه، وتنزيهه.. قوله: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" يعني فيما يعني، أنكم لا تدركون وحدة تسبيح الخلق، على تنوعه لأنكم مشغولون، بمظهر التعدد عن وحدة الدلالة.
بقي أن نقول، لا مجال لإثارة الشبهات حول وحدة الوجود في الإسلام، مثل شبهة الحلول والاتحاد، لأنها شبهات على نقيض مفهوم الوحدة تماما، فهي واضحة البطلان.. فالحلول يقوم على وجود شيئين، يحل أحدهما في الاخر، وكذلك الاتحاد، فهو يقتضي وجود شيئين أو أكثر، يتحد أحدهما بالآخر.. وهذه الثنائية "المانوية " هي ما ينفيه التوحيد، برد المظاهر المتعددة الى اصلها في الوحدة.. هذا التصور هو من أهم خصائص التصور الإسلامي، لطبائع الأشياء.
هذه هي القضية الأساسية في المعرفة التوحيدية: الحقيقة من حيث الوجود واحدة!! وينبني على هذه الحقيقة الكثير جدا، في الحياة، وفي المعرفة.. ويمكن أن يقال أنه بدون تصور هذه الحقيقة، والإيمان بها، لاتكون معرفة حقيقية، ولا حياة حقيقية..
وينبغي أن لا يكون هنالك، خلط بين وحدة الوجود في الإسلام، هذه التي تحدثنا عنها، ووحدة الوجود عند بعض الفلاسفة، وأصحاب الأديان الأخرى.. فالعبارة واحدة، ولكن تستخم لمعاني جد مختلفة.. بل قد تصل حد التناقض.. فبعض الذين يتحدثون عن الوجود، يعنون أن الوجود الحادث، في جملته هو الله.. وهذا في نظر الإسلام شرك غليظ، يعكس الأمور عكسا إذ يحدد المطلق، ولا يميز بين الذات، والتنزلات، فيخلط بذلك خلطا وبيلا بين الخالق والمخلوق.
ومن جوامع الكلم، التي تعبر عن حقيقة الوجود، قول الأستاذ محمود "الكون كله موجود في في كل جزء منه" !! وقوله: "ما من شئ كان أو سيكون، إلا وهو كائن الآن" !!
فالكون الحادث طبيعته روحية، ومظهره مادي.. والروح منه هي الأصل، والمادة فرع (مظهر).. وذلك لأن اللطافة هي الأصل.. "اللطيف" هو الأصل، والكثيف مظهره، هذا بالنسبة لكل شي.. فالطاقة بالنسبة للكون المادي، هي الأصل، والمادة مظهرها.. وهذا الأمر سنبني عليه كثيرا جدا.. ومما ينبني عليه، تصحيح وهم ساد الفكر البشري لفترة طويلة، ولا يزال قائما.. هذا الوهم هو المادية، في الفكر، وفي الفلسفة، وفي الحياة.. فقد ظل الأمر السائد، في الفلسفة الى وقت قريب، أنه لا وجود إلا للمادة التي تدركها حواسنا.. وعلى الرغم من أن العلم التجريبي المادي نفسه، توصل الى خطأ وخطل هذا الرأي، منذ بداية القرن العشرين، عندما توصل انشتاين إلى نظريته في التكافؤ بين المادة والطاقة، إلا أنه عمليا، لا يزال التفكير المادي هو السائد، ولكن لم تعد له السطوة القديمة، والغرور القديم.. أما بالنسبة للحياة، فقد تكون سطوة المادية قد زادت!! على كل، لا تزال الحياة المادية، في الحضارة الغربية، هي الغاية، وكل ما سواها وسيلة إليها.