إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١)
خالد الحاج عبد المحمود
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
خالد الحاج عبد المحمود
(1)
التوحيد: إطار التوجيه ونموذج الإرشاد
تقوم دعوة الأستاذ محمود محمد طه، على تقديم الاسلام، كمدنية جديدة، تنفخ الروح، في الحضارة الغربية السائدة.. ودعوته تقوم على بعث أصول القرآن، التي كان يعيشها النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، وهذا يشكل عنده مفهوم السنة النبوية.. والدعوة في جملتها، تقوم على تقديم الاسلام كتتويج لجميع رسالات السماء، منذ أن بدأت تلك الرسالات.. فالإسلام، كرسالة سماوية، للبشر، مشروع بدأ، بآدم عليه السلام، وختمت نبوته بمحمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. ولكن رسالته لم تكتمل!! وإنما ينتظر لها أن تكتمل، في هذه الدورة، من دورات الحياة، بالرسالة "الأحمدية"، والتي ما هي إلا سنة النبي الكريم، أو أصول القرآن، كما سبق أن أشرنا..
فالإسلام، من حيث التحقيق، مشروع، ليس لكماله نهاية، وإنما كماله في السرمد.. كذلك الإنسان، هو عند الأستاذ محمود، مشروع، ليس لكماله نهاية لأن كماله في السرمد..ولذلك الدعوة لتحقيق الإسلام، هي دعوة لتحقيق إنسانية الإنسان، والتي ما جاء الإسلام إلا من أجل تحقيقها، وهي، هي، خلافة الإنسان لله، في الأرض، الوارد ذكرها في القرآن.. ودعوة الأستاذ محمود، تقوم على أن موعد تحقيق الإسلام، في مستوى تحقيق، إنسانية الإنسان قد أظل، واكتملت شروطه المادية، ولم يبق إلا الأذن الإلهي به!!
والخطاب، بالدعوة، في مستوى العقيدة للمسلمين، واضح وبسيط جدا.. هو خطاب يقوم على الدعوة لبعث السنة، بتقليد النبي الكريم في عبادته، وفي ما يطاق من عادته.. فالأستاذ محمود يدعو المسلمين، ومن ورائهم الإنسانية جمعاء، الى "طريق محمد" عليه السلام.. وقد صدر كتاب بهذا الاسم، يوجز الدعوة، وقد صدرت طبعته الأولى في مارس 1966 وشعار الكتاب: "بتقليد محمد، تتوحد الأمة، ويتجدد دينها" .. فليس هنالك، رجل، هو من الكمال بحيث يستحق أن يتبع، في وقتنا الحاضر، سوى النبي صلى الله عليه وسلم.. ولا يوجد رجل، ولا يمكن أن يوجد رجل، يمكن للمسلمين أن يجمعوا على اتباعه، سوى النبي محمد عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، ولذلك ربطت البشارة النبوية، ببعث الإسلام ببعث السنة.. ومما جاء، في كتاب "طريق محمد"، قوله: "طريق محمد هو الطريق، لأنه طريق (المحبة) الخصبة، الخلاقة.. قال العزيز الحكيم عنه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)..
بطريق محمد أصبح الدين منهاج سلوك به تساس الحياة لترقى الدرجات نحو الحياة الكاملة.. حياة الفكر، وحياةالشعور.."
وقد قام الكتاب بتقديم تعريف بمحمد عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، وعرض نموذجا موجزا لمنهجه، يمكن أن يغني السالكين، حتى تنفتح لهم آفاق الحقيقة المحمدية.. ومما جاء في الكتاب عن التبشير بالإسلام قوله: " فالإسلام عائد، ما في ذلك أدنى ريب.. وستصحب عودته الغرابة، كما صحبت بدءه.. وما ذاك إلا لأن عودته ستكون عن طريق بعث ((لا إله إلا الله)) من جديد، قوية، خلاقة، في صدور الرجال، والنساء، كأول العهد بها - باختلاف واحد، هو أن عمود التوحيد ستكون له قمة جديدة، أعلى مما كانت عليه في العهد الأول، وذلك أمر يقتضيه حكم الوقت الحاضر، كما يقتضيه محض الفضل الإلهي، المَحْكِي في الآية الكريمة: ((كل يوم هو في شأن))".. وجاء في خاتمة الكتاب قوله: "ثم أما بعد، فإن هذه دعوة إلى الله، داعيها محمد، وهاديها محمد.. وهي دعوة وجبت الاستجابة لها أمس وتجب الاستجابة لها اليوم، كما وجبت أمس، وبقدر أكبر، إذ الحجة بها اليوم ألزم منها بالأمس. ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)) وإلا فلا.
يا أهل القرآن، لستم على شئ، حتى تقيموا القرآن. وإقامة القرآن كإقامة الصلاة، علم، وعمل بمقتضى العلم. وأول الأمر في الاقامتين، اتباع بإحسان، وبتجويد لعمل المعصوم.. أقام الله القرآن، وأقام الصلاة، وهدى إلى ذلك البصائر والأبصار، إنه سميع مجيب"
ويقول في متن الكتاب: "إن دولة القرآن قد أقبلت، وقد تهيأت البشرية لها بالمقدرة عليها وبالحاجة إليها، فليس عنها مندوحة.. وهذا يلقي على عاتق المسلمين المعاصرين واجبا ثقيلا، وهو واجب لن يحسنوا الاضطلاع به إلا إذا جعلوا محمدا، وحده إمامهم ووسيلتهم إلى الله.".. فالدعوة إذن بشارة، بدولة القرآن التي تهيأت البشرية لها.. وعن الربط بين القرآن، وبين محمد صلى الله عليه وسلم، جاء من أقوال الأستاذ مانصه: "أمران مقترنان ، ليس وراءهما مبتغى لمبتغٍ ، و ليس دونهما بلاغ لطالب: القرآن ، و حياة محمد..
أما القرآن فهو مفتاح الخلود .. و أما حياة محمد فهي مفتاح القرآن .. فمن قلد محمداً، تقليداً واعياً ، فهم مغاليق القرآن .. ومن فهم مغاليق القرآن حررعقله، وقلبه، من أسر الأوهام .. و من كان حر العقل ، و القلب ، دخل الخلود من أبوابه السبعة .
ويجب التمييز بين حياة محمد، وحديث محمد .. فأما حياته فهي السمت الذي لزمه في عاداته، وفي عباداته، من لدن بعثه، وإلى أن لحق بربه .. وأما حديثه فضربان، فما كان منه متعلقاً بسمت حياته في عاداته، و في عباداته، فهو منها، ولاحق بها .. و ما كان منه مراداً به إلى تنظيم حياة الجماعة التي بعث فيها، فهو لم يصدر عنه إلا بإعتباره إمام المسلمين، يشرع لهم من الدين ما يلائم حاجتهم الحاضرة، وما يستقيم مع مستواهم العقلي، والمادي والإجتماعي .. ولو قد فعل غير ذلك لشق عليهم، ولأعنتهم، ولأرهقهم إرهاقاً .. وما قام من تشريع حول حياة محمد فهو ليس بالشريعة الإسلامية، و إنما هو سنة النبي، و هو لا يزال صالحاً، في جملته وفي تفصيله، لأن النفس البشرية لا تزال، في وقتنا الحاضر بحاجة إليه، ولم تشب عن طوقه.
وما قام من تشريع حول حديث محمد (الذي أراد به إلى تنظيم حياة الجماعة) فهو الشريعة الإسلامية، و هو خاضع لسنة التطور ـ سنة الدثور، و التجديد ـ لأن المجموعة البشرية قد ترقت أكثر مما ترقت النفس البشرية، و قد استجدت لها أمور تحتاج إلى تشريع جديد، يستوعبها، و يحيط بها جميعاً .. هذا التشريع موجود في القرآن، و لكنه مكنون، مصون، مضنون به على غير أهله .. فمن سره أن يكون من أهله فليقلد محمداً في منهاج حياته، تقليداً واعياً، مع الثقة التامة بأنه قد أسلم نفسه إلى إرادة هادية، تجعل حياته مطابقة لروح القرآن، و شخصيته متأثرة بشخصية أعظم رجل، و تعيد وحدة الفكر، والعمل، في وجوده ووعيه كليهما، وتخلق من ذاته المادية، و ذاته الروحية كلاً واحداً، متسقاً، قادراً عل التوحيد بين المظاهر المختلفة في الحياة..
أمران مقترنان: القرآن، وحياة محمد، هما السر في أمرين مقترنين: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" لا يستقيم الأخيران إلا بالأولين" ..
ولإكمال، بيان منهج طريق (محمد) صدر كتاب( تعلموا كيف تصلون).. الذي كانت طبعته الأولى قد صدرت في مايو 1972م
ونحن بدأنا الحديث هنا، بالتوحيد، كإطار للتوجيه ونموذج للإرشاد، لاعتبارين أساسيين، أولهما: أن التوحيد هو أساس الدين، وثانيهما: أن الحضارة البشرية اليوم، لا تتجسد في شئ، مثل ما تتجسد في في الحاجة إلى إطار للتوجيه مغاير لإطار التوجيه السائد، والذي تقوم عليه الحضارة الغربية السائدة اليوم.. و(التوحيد) كما يقدمه الأستاذ محمود محمد طه في دعوته للإسلام، هو وحده، دون غيره، ما يصلح للاستجابة لتحديات الواقع الحضاري، ويملك القدرة على حل مشكلاته، فيوجه الحضارة الوجهة، التي تحل مشكلات الإنسان المعاصر، وتستجيب لتطلعاته، وأشواقه.. وهذا ما سنعمل على بيانه.