إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١)

خالد الحاج عبد المحمود


الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته


أزمة الحضارة، أزمة إطار:


إن ما تحتاجه البشرية، اليوم، بصورة أساسية، هو إطار توجيه، ونموذج إرشاد، كلي، وشامل، تقيم عليه تصورها الأساسي للكون، وللحياة، وتسترشد به، في جميع نشاطاتها الفكرية، والحياتية، وفق أهداف وغايات كلية، تقوم على طبيعة الوجود، وعلى الطبيعة البشرية، وهذا أمر تهيأت البشرية له، بالحاجة إليه، والطاقة به، لأول مرة في تاريخها، بفضل الله، ثم بفضل التطور الهائل، الذي حققته الحضارة الغربية السائدة.. والسمة الأساسية، لإطار التوجيه المنشود، هي (الوحدة)، التي تعطي إطارا مشتركا لجميع الخلائق، بله البشر، وتجعل التمايز الفردي ممكنا، وفعالا، في إثراء الحياة البشرية، ثم هو لا يستوجب تمييزا، لا في أصل الطبيعة، ولا في إطار القانون عند البشر.. وقد أصبح الشعور بالوحدة، في المجال (الكوزمولجي) مشعورا به بشدة، نتيجة للتطور العلمي، الذي رد كل صور المادة إلى الطاقة، ورد كل الكون المادي، إلى بداية واحدة مشتركة، وأصل واحد مشترك، كما تشير الى ذلك (نظرية الانفجار العظيم).. كما أن هنالك، في مجالات العلم المادي التجريبي شعور قوي، بأن هنالك قانون واحد يحكم الكون كله، والبحث جاري عن معرفة هذا القانون، أو النظرية التي تفسر كل شئ (نظرية كل شئ).. كما أن المحاولات الجادة جارية، في الربط والتوحيد، بين القوى الأربعة: الجاذبيبة، والكهرومغنطيسية، والذرية القوية، والذرية الضعيفة.. أما على مستوى البشر، فإن الوحدة على مستوى الكوكب الأرضي، قد تحققت جغرافيا، بصورة تكاد تلغي الزمان، والمكان، وهذه الوحدة تطالب بمظاهرها في الجوانب الإنسانية المختلفة.. وما (العولمة) إلا استجابة الحضارة الغربية، لمقتضيات هذه الوحدة، وتعبر عنها في في إطار قيم هذه الحضارة، وإطار التوجيه فيها.. ولكن (العولمة) كاستجابة لتحديات (الوحدة)، محاولة فاشلة، وقاصرة أشد القصور.. ولأن التصور يرجع الى طبيعة الإطار المرجعي لهذه الحضارة، فمن المستحيل أن تفضي الحضارة الغربية إلى الوحدة المنشودة، دون أن يكون هنالك تغيير أساسي فيها، وفي إطارها التوجيهي بالذات.. وهذا ما سنناقشه، في مرحلة لاحقة.. وما نقرره هنا كقضية جوهرية، بالنسبة للخلل، في جوهر إطار التوجيه للحضارة الغربية هو: على الرغم من أن الحضارة الغربية نفسها، وعن طريق العلم المادي التجريبي، توصلت إلى أن المادة، كما تظهر لحواسنا، ليست هي أصل الكون، بل هي غير موجودة أساسا، إلا بالنسبة لخداع حواسنا، وما هي في الحقيقة إلا مظهر لشئ وراءها هو (الطاقة)، على الرغم من ذلك، لا زالت الحضارة في جوهرها، حضارة مادية!! هي مادية في تصورها لطبيعة الكون، وللإنسان، وللحياة.. فالمادية، تشكل جوهر الإطار المرجعي لهذه الحضارة.. وهذا إطار لم يعد يصلح لتوجيه الواقع الحضاري الجديد الذي نعيشه اليوم، فلا بد من إطار مرجعي جديد، يتجاوز هذا الإطار، دون أن يلغي الجوانب الإيجابية فيه، وذلك بوضع المادية في إطارها، كمظهر، وكوسيلة، لما ورائها.
وأهم ما هو مطلوب، من الإطار المرجعي الجديد، أن يؤديه، هو أن يعطي الوجود معنى كليا، ويعطي الحياة، معنى كليا، وهدفا كليا.. فغياب المعنى الكلي والهدف الكلي، هو أساس أزمة الحضارة القائمة، وهو ينعكس على كل شئ في حياة الإنسان، ويحد من قيمة أي نشاط حياتي، أو فكري.. فإذا كانت الأهداف غير محددة تحديدا، واضحا، ولا يوجد تمييز واضح بين ما هو غاية، وما هو وسيلة، لابد للحياة البشرية، وللفكر البشري، أن يكون مضطربا.. وهذا هو حال الواقع الحضاري القائم.
كل الناس، يشعرون، بمشكلة غياب المعنى، في حياتهم، على تفاوت بينهم في ذلك.. ولكن الأذكياء، من أبناء الحضارة، عبروا عن الأزمة، وحددوها بوضوح.. ونحن نورد هنا أقوال بعض هؤلآء، على سبيل المثال.. فمثلا الكاتب، والمحلل النفسي، الأمريكي إريك فروم، قال في هذا الإطار:"لم يقترب الإنسان في يوم ما من تحقيق أعز أمانيه، مثلما اقترب اليوم.. فكشوفنا العلمية، وانجازاتنا التقنية تمكننا من أن نرى رأي العين اليوم الذي تمد فيه المائدة لكل من يشتهون الطعام.. اليوم الذي يؤلف فيه الجنس البشري مجتمعا موحدا، فلا نعود نعيش في كيانات منفصلة، وقد اقتضى الأمر آلاف السنين حتى تفتحت على- هذا النحو- ملكات الإنسان الذهنية، وقدرته النامية على تنظيم المجتمع وتركيز طاقاته، تركيزا هادفا. وهكذا خلق الإنسان عالما جديدا له قوانينه الخاصة ومصيره. فإذا نظر الى ما أبدعه حق له أن يقول أن هذا الذي أبدعه، شئ حسن".. ويواصل ليقول: "ولكن ماذا يقول إذا نظر الى نفسه؟ هل اقترب من تحقيق حلم آخر للبشر، هو كمال "الإنسان"؟ الإنسان الذي يحب جاره، ويحكم بالعدل، وينطق بالصدق، محققا ماهيته، أي أن يكون صورة للإله؟.. إثارة السؤال تدعو للحرج، لأن الإجابة واضحة وضوحا اليما.. فبينما خلقنا أشياء رائعة، أخفقنا في أن نجعل من أنفسنا جديرين بهذا الجهد الخارق. فحياتنا حياة لا يسودها الإخاء والسعادة، والقناعة، بل تجتاحها الفوضى الروحية والضياع الذي يقترب اقترابا خطرا من حالة الجنون" ..الى أن يقول: "ولكن هل سيسمع أطفالنا صوتا يرشدهم الى ما يتجهون، وما الهدف الذي يعيشون من أجله إنهم يشعرون على نحو ما- كما يشعر الناس جميعا- أنه لا بد للحياة من معنى، ولكن ما هو؟ هل يجدونه في التناقضات، وفي الكلام المزدوج الدلالة، وفي الاستسلام السافر االذي يلتقون به عند كل منعطف؟ إنهم مشوقون الى السعادة والعدالة والحب، والى موضوع للعبادة، فهل نحن قادرون على إشباع شوقهم؟
عاجزون نحن مثلهم، بل إننا لا نعرف الإجابة لأننا نسينا حتى أن نسأل السؤال، ونزعم أن حياتنا قائمة على أساس متين ونتجاهل ظلال القلق، والهم، والحيرة التي تغشانا فلا تريم".. ومن أهم ما قاله فروم، في هذا الصدد، مما له علاقة بالوحدة، التي نتحدث عنها، وعن تشخيص أزمة الحضارة، قوله: "وينشئ التنافر(انعدام الانسجام)، في وجود الإنسان حاجات تتجاوز حاجات أصله الحيواني تجاوزا بعيدا.. وينتج عن هذه الحاجات دافع قاهر لاستعادة الوحدة، والتوازن بينه وبين بقية الطبيعة. ويحاول استعادة هذه الوحدة والتوازن في الفكر بادئ الأمر، وذلك بتشييد صورة ذهنية جامعة all-inclusive للعالم تكون بمثابة إطار للإشارة، يستطيع منه أن يستمد الإجابة على السؤال الخاص بموقفه، وما ينبغي عليه أن يفعله. بيد أن مثل هذه المذاهب الفكرية، ليست كافية. فلو كان الإنسان عقلا مجردا عن الجسم لبلغ غايته بمذهب فكري شامل.. ولكن ما دام الإنسان كيانا له جسم وعقل، فلا مناص من أن يواجه ثنائية وجوده لا بالتفكير فحسب، بل بعملية الحياة أيضا، وبمشاعره وأفعاله. وعليه أن يسعى جاهدا الى تجربة الاتحاد والوحدة في كل مجالات وجوده لكي يصل الى توازن جديد".. راجع كتاب: "الدين والتحليل النفسي" .. هذا تصور، رائع- جوهري، ومتكامل- لمشكلات الإنسان المعاصر، وأشواقه.. ونحن على يقين تام، أن هذه التحديات والأشواق، لا تجد الاستجابة الحقيقية لها، إلا في"التوحيد" كإطار مرجعي، وهذا ما نحن بصدد بيانه.
أما البرت اسفنشير، فيقول، من كتابه:(فلسفة الحضارة) "والأمر الثاني الذي أود أن يتداوله الناس هو أمر العلاقة بين الحضارة، وبين نظريتنا في الكون، وهي علاقة لا يعيرها أحد التفاتا في الوقت الحاضر، فإن العصرالذي نعيش فيه يعوزه إدراك أهمية الظفر بنظرية في الكون، فإن الاعتقاد العام في هذه الأيام، سواء لدى المتعلمين أو غير المتعلمين، هو أن الإنسانية ستتقدم على نحو مرض تماما، دون الحاجة الى أي نظرية في الكون على الإطلاق.
والواقع أن كل تقدم إنساني يتوقف على التقدم في نظرية في الكون، وعلى العكس نجد أن كل انحلال سببه انحلال مماثل في نظريته في الكون
وقتما يتهيأ لنا الوصول الى نظرية قوية وثمينة في الكون، نجد فيها اعتقادا قويا ثمينا، هنالك فقط يكون في وسعنا إيجاد حضارة جديدة" .. ويقول: "لكن الأمر الذي أرجوه قبل كل شئ- وهذا هو جوهر المسألة كلها- هو أنه ينبغي لنا أن نعترف بأن افتقارنا الكامل الآن الى أي نظرية في الكون هو المصدر الأخير لكل الكوارث وألوان الشقاء التي يعج بها العصر الحاضر، ولهذا يجب أن نعمل معا لإيجاد نظرية في الكون وفي الحياة، حتى نستطيع بذلك أن نصل الى مستوى عقلي يجعلنا متمدنين فعلا وحقا".. أما ويتهد فيقول: "إن الإنسانية تستطيع أن تزدهر في المراحل الدنيا من الحياة بواسطة لمحات بربرية، من الفكر فحسب. ولكن عندما تبلغ المدنية ذروتها، فإن عدم وجود فلسفة متسقة تكون منتشرة في الجماعات كلها، يؤدي إلى الانهيار والملل وتراخي الجهد"
بالطبع الهدف للحياة، لا يغيب عن الإنسان بصورة كلية، فالإنسان كائن هادف، لا يعمل إلا لغاية متصورة عنده.. فالغائية تدخل في حياة الإنسان، في كل كبيرة وصغيرة، ومن هنا تأتي الأهمية القصوى للمعنى، والهدف للحياة.. والهدف الذي نتحدث عنه، ونزعم أن الإطار المرجعي للحضارة الغربية لايمكن أن يعطيه، هو الهدف الكلي، الشامل، والمتسق مع طبيعة الوجود، وطبيعة الحياة، وهذا ما عناه المفكرون الذين أوردنا بعض أقوالهم.. أما الأهداف الآنية المحدودة، فلا يخلو منها أحد.. وعن كلية الهدف، يقول كولن ولسن: "إن ما يجب على الإنسان أن يفعله هو أن يحاول أن يفهم العالم، وليس العالم ما يحيط به من كون فقط، وإنما هناك كون آخر، خلف عينيه أيضا.. وكل ما يحتاج اليه الإنسان هو أن يفترض شيئا ليعمل على ضوئه.. أن يؤمن بشئ ليمنحه ذلك هدفا، والمحك الأخير لقيمة هذا الإيمان هو إلى أي حد يستطيع على ضوء مثل هذا الإيمان أن يعمل؟ لقد كان الاسكندر الأكبر يؤمن بشئ منحه قوة هادفة هائلة، إذ آمن بأنه سيحكم العالم كله، ولما حكم العالم، جلس يتساءل يائسا: ماذا أفعل الآن؟ أجل، هذا هو محك كل إيمان.. فإذا انتهى مفهوم الهدف عند حد معين، فإنه ليس هدفا حقيقيا إذن، ليس هدفا نهائيا، ولكن الدين يمنح الإنسان هذا الهدف النهائي، الهدف الذي لا ينتهي حتى ولو عاش مليونا من السنين"..
هذا ما قاله كولن ولسن، أما نحن فنقول: إن الهدف النهائي، لا ينتهي، حتى بعد الموت، ولا يكون هدفا نهائيا، حقيقيا، إلا إذا اشتمل على ما بعد الموت!!