إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
وما تقوم عليه الحضارة الغربية، من إطار مرجعي، سواء في الفهم الذي تعطيه العلوم التجريبية، أو في العلمانية، أو مفهوم اللبرالية أو الرأسمالية، فبعيد كل البعد، عن أن يعطي مثل هذا الهدف النهائي، وهذا ما أوردنا بعض أقوال مفكري هذه الحضارة في التدليل عليه.. فالعلمانية تقوم على معرفة الكون، والانشغال بالحياة الدنيا، والدين يقوم على معرفة الله، ومعرفة الكون في الدين وسيلة الى معرفة الله، وطرفا منها.. كما أنه في الدين، الحياة الدنيا، وسيلة الى الحياة العليا – وهي حياة مطلوب أن تعاش هنا في دورة هذه الحياة- يقول تعالى عن المعرفتين: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) .. "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا" هذه هي العلمانية، وما يمكن أن يعطيه الإطار المرجعي الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، ولا تستطيع أن تتعداه، بأي حال من الأحوال.. فالعلمانية، تقوم على توكيد الحياة الدنيا، وحدها، وعلى العقل الذي يشكله هذا التوكيد.. والحياة الدنيا، ليست هي الحياة، وإنما هي وسيلة للحياة، فبالتوكيد عليها، بل والقصور عليها، جعلت الحضارة الغربية الوسيلة في مكان الغاية، وهي في النظام الرأسمالي السائد، وظفت نشاط الإنسان كله في سبيل هذه الوسيلة، على اعتبار أنها الغاية الوحيدة لكل صور النشاط الفكري، والحياتي.. وأصبحت بذلك حياة الإنسان كلها مبنية على الإنتاج والاستهلاك..
والاستهلاك لم يعد مجرد نشاط بشري، وانما اصبح نمط حياة!! بل ونمط الحياة الأساسي الذي يوجه كل نشاط الإنسان!!
ومن أهم من عالجوا هذا الأمر من المفكرين الغربيين، إريك فروم، خصوصا، في كتابه:To have or to be والذي ترجم الى اللغة العربية تحت اسم (التملك والكينونة)، وأهم ما فيه هو أنه دلل بوضوح أن الملكية تشكل كل جوانب حياة إنسان الحضارة الغربية، كما تشكل قيمته عند نفسه وفي المجتمع.
قصدنا من هذا المدخل أن نوكد، أن مشكلة الحضارة الغربية، تكمن في جوهرها - إطار التوجيه فيها - الأمر الذي يقتضي إعادة نظر جذرية في هذا الإطار، وتقديم البديل له، وهذا ما يفعله الإسلام، كما يقدمه الأستاذ محمود محمد طه، وهذا ما نحن بصدده في هذه الكتابة.. فإذا استخدمنا، مصطلح "نموذج الإرشاد Paradigm "، بالصورة التي استخدمه بها عالم الفيزياء والمؤرخ "توماس كون" في كتابه عن "بنية الثورات العلمية"، نستطيع أن نقول أن الحضارة البشرية ونموذج الإرشاد فيها، دخلتا مرحلة ما يسميه كون "مرحلة الأزمة" وهي مرحلة عنده، تقتضي تغيير النموذج الإرشادي، واستبداله بنموذج إرشادي جديد يحمل افتراضات صريحة وضمنية جديدة.. فكون توصل "من خلال دراسته تاريخ العلم، واستعراضه عددا كبيرا من الأمثلة حول تطورات العلوم الطبيعية، الى أن مسار العلم لا يمضي بشكل تراكمي، وفي إتجاه واحد، بل في مسارات دائرية، حيث يمضي التقدم العلمي في أي فرع من فروع العلوم محكوما بنموذج إرشادي Paradigm يحدد مسار العلم وأدوات الدراسة، وهو ما يسمى بالعلم القياسي Normal Science إلا أن ما أن تقدم العلم، يتراكم حجم هائل من المعلومات في نطاق هذا النموذج الإرشادي، ويتراكم كذلك عدد كبير من المشكلات... وأوجه التناقض وجوانب لا يستطيع العلم السائد تفسيرها، مما يؤدي دخول العلم الى ما يسميه كون "مرحلة الأزمة" التي تؤدي الى إعادة النظر في العديد من القواعد والنظريات المستقرة وإلى حدوث "ثورة علمية" في التخصص، مما يؤدي بدوره، الى تغيير النموذج الإرشادي، وظهور نموذج إرشادي جديد يحمل افتراضات صريحة وضمنية حول طبيعة التخصص وظواهره . فهو تحول في النظر الى العالم يؤدي الى أن تبدو الموضوعات التقليدية في ضوء مغاير وقد ارتبطت في الوقت ذاته بمواصفات أخرى غير مألوفة، مما يرسم مسارا جديدا لطبيعة المشكلات موضوع الدراسة في المستقبل"- راجع د. محمد طه، كتاب "الذكاء الإنساني"- وهذا ما ينطبق على الحضارة ككل، مع اختلاف أساسي هو أن نموذج الإرشاد المطلوب، ينبغي أن تنطبق عليه المواصفات التي تحدثنا عنها، حتى تقوم الحلول التي تنبني عليه، باستيعاب طاقات الحياة المعاصرة، وتحل مشكلاتها، وتعطيها، المعنى والهدف الكلي الشامل، والذي ينسجم مع طبيعة الوجود، الروحية والمادية، ومع طبيعة الإنسان، الروحية والمادية، أيضا.. والحضارة الغربية، بطبيعتها، يستحيل عليها أن تقدم، نموذج الإرشاد هذا المنشود.. ونحن نزعم أنه لا يتوفر، إلا في الإسلام، وحده، دون غيره، من الأديان والأفكار والفلسفات.. ولكن الحضارة الغربية، بإنجازاتها العظيمة في مجالات العلم، والتكنولوجيا، استرهبت عقول المسلمين، فانصرفوا عما عندهم من جوهر، الى ما في هذه الحضارة من بهرج، فاصبحوا يعيشون على قشور من الاسلام، وعلى قشور من الحضارة الغربية، والحضارة الغربية جوهرها، فاسد، خل عنك قشورها.