إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التقليد!! والأصيل!! والأصلاء!!

فض التعارض بين الفرد والجماعة


إنه من الواضح، لدى النظرة الأولى، أن هنالك تعارضا، باديا بين حاجة الفرد، وحاجة الجماعة.. وقد جعل هذا التعارض البادي، الفلسفات الإجتماعية، وعلى رأسها الماركسية، تعتقد أن الفرد إذا اعطي الفرصة لإشباع حاجاته، سيعمل ضد مصلحة الجماعة.. ولما كانت الجماعة هي الأكثر عددا، فإن مصلحتها هي التي ينبغي أن تراعى، ولذلك أهدرت هذه الفلسفات حرية الفرد، في سبيل تحقيق مصلحة الجماعة، فأضاعت بذلك مصلحة الفرد، ومصلحة الجماعة، في آن معا، وظلت مشكلة التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة قائمة، تطلب الحل.. والحل في الإسلام كما أشرنا، وليس في أي فكر غيره كما سنبين..
ففي الإسلام الفرد هو الغاية وكل ما عداه وسيلة إليه، بما في ذلك وسيلة القرآن، ووسيلة الإسلام، ووسيلة المجتمع.. فكل فرد بشري، من رجل أو امرأة، هو غاية في ذاته، ويجب ألا يتخذ وسيلة إلى غاية وراءه... والإسلام يستطيع أن يفض التعارض البادي بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة، وينسق هاتين الحاجتين في سمط واحد، تكون فيه حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، إمتدادا لحاجة الجماعة إلى العدالة الإجتماعية الشاملة، أو قل يجعل تنظيم الجماعة وسيلة إلى حرية الأفراد، وليس بديلا عنها، كما هو الأمر عند الماركسية.. والإسلام يستطيع هذا التنسيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة بفضل التوحيد، الذي جعل شريعته تقع على مستويين: مستوى الجماعة، ومستوى الفرد.. فأما تشريعه في مستوى الجماعة، فهو تشريع المعاملات، وأما تشريعه في مستوى الفرد فهو تشريع العبادات.. وتشريع المعاملات ينسق العلاقة بين الفرد والفرد، في المجتمع، في حين أن تشريع العبادات ينسق العلاقة بين الفرد والرب.. وهذان التشريعان هما شطرا شريعة واحدة، لا تقوم إلا بهما معا.. والاختلاف بينهما اختلاف مقدار.. فتشريع المعاملات تشريع عبادات في مستوى غليظ، وتشريع العبادات تشريع معاملات في مستوى رفيع، وذلك لأن الفردية في العبادة أظهر منها في المعاملة.. والعبادة ليست لها قيمة إذا لم تنعكس في معاملة الجماعة، ولذلك جعل المعصوم الدين كله في المعاملة، فقال: (الدين المعاملة).. وقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. فالعبادة هي مدرسة تعد الفرد، وتؤهله، لحسن المعاملة، وهو لا يجد فرصة التطبيق العملي إلا في السلوك في الجماعة.. وقد وضع الإسلام كل تشريعاته في صورة تحقق في سياق واحد، حاجة الفرد وحاجة الجماعة.. فهو لم يضح بالفرد في سبيل الجماعة، فيهزم الغاية بالوسيلة، ولم يضح بالجماعة، في سبيل الفرد، فيفرط في أهم وسائل تحقيق الفردية.. وفي التصور الإسلامي الصحيح مصلحة الجماعة ليست ضد مصلحة الفرد، و إنما هي نفس مصلحة الفرد، ولذلك قال المعصوم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).. وقال تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها.. وما ربك بظلام للعبيد).. فالفرد في الإسلام، عندما يعمل في خدمة الآخرين، وتوصيل الخير اليهم، إنما يعمل لمصلحته هو في المكان الأول، لأنه يلقى مقابل هذا العمل الأجر والثواب من الله، بصورة مباشرة يجد بركتها في نفسه في التو، وفي الحين.. ولذلك فإن كمال حياة الفرد، في الإسلام، يتحقق من خلال توظيف حياته لخدمة الآخرين، ولا يتحقق بمجرد السعي المباشر لمصالحه الذاتية.. ولذلك فإن الإسلام يضع نفسه منذ البداية ضد الأنانية السفلى التي ترى مصلحتها على حساب مصالح الآخرين، ومع الأنانية العليا التي ترى مصلحتها في مصلحة الآخرين.. فالفرد المسلم يعمل في خدمة الآخرين بدافع حقيقي، وهو علمه بأن هذه هي مصلحته الفردية.. و إنما أصبح الأمر في الإسلام بهذه الصورة لأن القيمة في الإسلام تقع على مستويين: مستوى مادي، ومستوى روحي.. والمستوى المادي هو وسيلة للمستوى الروحي.. في الإسلام الخبز وسيلة للحرية وليس بديلا عنها.. فوجود القيمة في هذين المستويين من التشريع، اللذين تحدثنا عنهما، هو الذي يجعل الإسلام قادرا على فض التعارض بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة.. وفض التعارض بين الفرد والجماعة، هو في الإسلام سلوك عمل يومي، فالعمل، وفق منهاج السنة في تقليد النبي، يقوم على تجويد العبادة في الخلوة، لإكتساب العلم والمقدرة على خدمة الناس في الجلوة.. وهذا العمل، عند السالك في طريق محمد، يقوم على تفاصيل علمية دقيقة، تعمل على تربية النفس، وتهذيبها، حتى تتعامل مع الآخرين معاملة إنسانية، تراعي مصلحتهم دائما، فتكف الأذى عنهم وتتحمل أذاهم، وتسعى في توصيل الخير إليهم.. وهذا الصنيع، في نهج التقوى في العبادة والمعاملة، هو الذي يوحد مصلحة الفرد، ومصلحة الجماعة، وهو الذي يتيح الفرصة للفرد للإنشغال بداخله، بعد ان كان طوال الوقت منشغلا بالخارج، وبذلك يعرف نفسه، ويكتشف مواهبها، ويفجر طاقاتها، ويحقق فرديته وأصالته..