بسم الله الرحمن الرحيم
(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)..
صدق الله العظيم
المقدمة
هذا كتاب نصدره عن الأصالة، وعن الأصيل.. وموضوع الأصالة والأصيل، موضوع كثيرا ما ورد في كتاباتنا، وفي أحاديثنا.. وهو موضوع شديد الأهمية، إذ عليه يقوم أمر الدين كله، وبه تتحقق الكمالات الإنسانية.. والأصالة ببساطة تعني الفردية، تعني تحقيق الذاتية.. وهذا معنى مستخدم في حياتنا اليومية، عندما نتحدث عن الشاعر الأصيل، أو الفنان، أو الأديب الأصيل، نعني صاحب الموهبة، المبدع غير المقلد.. ولكن الأصالة في الفهم الديني أعمق من هذا الفهم المتداول بكثير، وإن كانت لا تختلف عنه في التصور العام.. ففي الفهم الديني كل فرد بشري هو صاحب أصالة، صاحب فردية، أو قل صاحب مواهب ذاتية، يختلف فيها عن سائر البشر الآخرين، وكماله إنما يكون باكتشاف هذه المواهب، وتفجيرها، حتى تعبر عن نفسها تعبيرا سويا، يثري حياته، وينميها، ويثري حياة الجماعة.. فقيمة الفردية في الفكر، وفي الدين، قيمة واضحة، بصورة تكاد تكون بديهية، فلا يمكن لإنسان عاقل أن يعتقد أن الأصيل هو مثل المقلد، أو مثل الشخص الفاقد لذاتيته.
ونحن في وقتنا الحاضر، نعيش في وقت تطورت فيه الحضارة الغربية المادية تطورا هائلا، في المجالات العلمية والتكنولوجية.. ولكن هذا التطور، رغم أنه قدم للبشرية خدمات جليلة، إلا أن له آثارا سلبية، كثيرة وخطيرة.. ومن أهم هذه الآثار السلبية أن الإنسان المعاصر، تحت ظروف الحضارة المادية القائمة والفلسفات التي توجهها، قد فقد ذاتيته، فقد أصالته، وسط زحمة مجتمع الإنتاج والإستهلاك الكبير، مجتمع المدن الكبيرة، مجتمع الجماعات الكبيرة والمنظمة، والمزودة بالوسائل العلمية التي بها تطوع الفرد لنظامها.. ولذلك، ورغم التطور المادي الهائل، فقد أصبح الإنسان المعاصر يشعر أنه قد فقد نفسه في سبيل تحقيق هذا التطور، فأصبح مجرد سِنَّة في دولاب المجتمع الكبير، ومجرد تابع للآلة التي اخترعها لتخدمه، فإذا به يصبح عبدا لها يخدمها، ويلهث وراء إنتاجها.. بل أن التطور العلمي عندما أصبح يستخدم في مجال التسلح، أصبحت الآلة سيدة الإنسان، في مستوى التصرف في حياته، فهي تملك أن تزهق هذه الحياة، وقد فعلت كثيرا، خصوصا في الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من حروب إقليمية، وهي لا تزال تفعل..
فقد فشلت الحضارة الغربية المادية المعاصرة، وما تقوم عليه من فلسفات، وعلى رأسها الماركسية، فشلت في حل مشكلة الإنسان المعاصر، وتحقيق فرديته وذاتيته.. فشلت في فض التعارض البادي بين الفرد والمجتمع، فأهدرت حرية الفرد، وطمست ذاتيته، فلم تحقق بذلك حاجة الفرد، ولا حاجة الجماعة..
وتحت وطأة الحضارة المادية هذه، استشرى القلق، والإضطراب النفسي، الذي ساد حياة الأفراد فأصبحوا يشعرون بحالة من الإحباط، ومن الإغتراب، أفقدت الحياة طعمها، رغم الوفرة المادية.. تحت هذه الظروف بدأ الإنسان المعاصر يحن، ويتطلع، إلى تحقيق ذاتيته، تحقيق أصالته.. وقد عبر عن هذا الحنين، بالكثير من صور التعبير في مجالات الأدب والفلسفة والفن، التي كثيرا ما تدور حول ضياع الإنسان المعاصر، وشعوره بالإغتراب، وفقدان الذاتية.. وقد كان الوجوديون هم أكبر من تطلع إلى تحقيق الذاتية والفردية، في المجتمعات الغربية، ولكنهم لما كانوا لا يملكون فكرة واضحة، ولا منهاجا محددا، فقد انتهى بهم تطلعهم إلى أن يعيشوا صورة من الفوضى، ومن القلق، ومن العبث، لم تضف إلى مجتمعاتهم شيئا أكثر من المزيد من الشعور بالضياع.. ومن أوضح صور بحث الإنسان المعاصر عن فرديته وذاتيته، صور الرفض للحضارة الغربية المادية، التي انتشرت بين الشباب في الغرب، خصوصا عند جماعات الهيبيز.
ولقد فشلت الفلسفات المعاصرة في الإستجابة لتطلعات الإنسان المعاصر إلى الأصالة والفردية، وفشلت في حل التعارض البادي بين الفرد والمجتمع.. وأوضح ما يكون هذا الفشل عند الماركسية التي أهدرت قيمة الفرد في سبيل الجماعة، فهزمت الغاية بالوسيلة، ولم تبلغ طائلا في خدمة أغراض الجماعة، حتى في مستواها المادي، رغم الكبت، ورغم العنف العنيف الذي أودى بحياة ملايين البشر.
والآن فإن التحدي الذي يواجه كل الفلسفات، وكل الأديان، هو تحقيق فردية الفرد، وتحقيق أصالته، والتوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة.. وهذا التحدي ليس له إلا الإسلام في مستوى أصوله، مستوى السنة.. ولذلك نحن عندما نتحدث عن الفردية، وعن الأصالة، لا نتحدث عن نافلة من القول، ولا عن ترف ذهني، وإنما نتحدث عن جوهر الكمال البشري، ومحور تطلعات الإنسان المعاصر.. والكمال الذي نتحدث عنه، ونبشر به، ليس حلما، وإنما هو أمر ممكن، وقد نضجت كل الظروف لتحقيقه، ونحن نملك المنهاج العلمي، والعملي، لهذا التحقيق، وهو تحقيق يبدأ من بدايات بسيطة وأولية، يتساوى فيها كل الناس، الأمي والمتعلم، الذكي وغير الذكي.
نحن في هذا الكتاب نبشر بعهد الكمالات الإنسانية، عهد تحقيق الأفراد لفردياتهم، وذاتياتهم، بالصورة التي تتم لهم فيها وحدة البنية البشرية، فينتفي القلق، والإضطراب النفسي، ويتحقق السلام الداخلي، في كل نفس بشرية، ويتحقق السلام الخارجي بتحقيق هذا السلام الداخلي، فيعم الأرض السلام.. فهذا هو جوهر الإسلام، ورسالته، وهو الأمر الذي ظللنا نحن بصدده دائما، ندعو له، ونبشر به، ونبين السبل المفضية إليه.. ولذلك فان كتابنا هذا في جملته يعمل على تبيين موضوع الأصالة، أو الفردية، كقيمة إنسانية أساسية، وهم الكتاب هو التبسيط، والإيجاز، قدر الإمكان.