الأصالة هي تكليفنا الأساسي
إن الأصالة، أو الفردية، هي حقيقتنا، وهي تكليفنا الأساسي، وهي قدرنا المقدور، الذي ليس منه مناص.. الأصالة هي حقيقتنا بمعنى ان كل فرد منا، هو في الحقيقة، صاحب فردية متميزة، وصاحب خصائص، ومواهب، لا يشبهه فيها أحد.. وهذا أمر واضح في التوحيد، إذ أن الألوهية من سعتها لا تكرر نفسها، فالتكرار عجز، تعالى الله عنه علوا كبيرا.. فالله تعالى، من كماله، أنه لا يتجلى لذرتين في الوجود تجليا واحدا، وهذا من معاني قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن).. إذن، نحن في الحقيقة اصحاب فرديات، ولكنها فرديات انطمست، بسبب الصراع في الحياة، وما تسبب فيه من كبت، وخوف، جعلنا نعيش خارجنا بأكثر مما نعيش داخلنا.. والعمل السلوكي، وفق نهج السنة في تقليد المعصوم، هو عمل في إزالة هذا الكبت، وتوحيد البنية البشرية، التي انقسمت بين عقل واع وعقل باطن، حتى تبرز الأصالة، والفردية، من حالة الكمون، والضمور، التي هي عليها، فتنطلق الطاقات الحبيسة في العقل الباطن، وتتفجر ينابيع المواهب الثرة الكامنة في نفس كل منا.. فالعمل وفق نهج السنة المقصود منه أن نكون أصحاب أصالة وفردية في الشريعة، كما نحن اصحاب أصالة وفردية في الحقيقة، وتكون بذلك شريعتنا طرفا من حقيقتنا، فنصبح أصحاب شرائع فردية، كما نحن أصحاب حقائق فردية، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة، ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).. ف(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) يعني لكل فرد منكم جعلنا (شرعة) أي شريعة، (ومنهاجا) يعني سنة.. (فشرعة ومنهاجا) يعني شريعة وحقيقة.. فشريعة العارف طرف من حقيقته، وهو فردي الحقيقة، فردي الشريعة.. ووقت تحقيق هذه الشرائع الفردية، ومستوى تحقيقها، يختلف من فرد لآخر، إلا أنها، في مستوى القمة، المستوى الذي يسقط فيه التقليد، تتحقق في هذه الحياة الدنيا لرجل واحد، هو قمة الهرم، أما كل من عداه فهم يحققون أصالتهم وشرائعهم الفردية داخل إطار التقليد النبوي، على تفاوت بينهم، في ذلك، في زمن التحقيق، وفي مستوى التحقيق..
الأمر الذي نريد أن نؤكده هنا هو أننا أصحاب حقائق فردية، وأنه لا بد من أن نكون أصحاب شرائع فردية.. فهذا هو قدرنا المقدور، وهو ما يفهم من الآية السالفة الذكر..
أما كون الأصالة والفردية هي تكليفنا الأساسي في الإسلام، فهذا أمر واضح بصورة جلية.. فالفردية في الإسلام هي جوهر الأمر كله، هي مدار التكليف ومدار التشريف، وقد وكدهما الإسلام توكيدا شديدا.. فتكليفنا الأساسي في الإسلام هو ان نكون عبيدا لله، بوسيلة العبادة، وهذا ما يعنيه قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).. يعني ما خلقتهم إلا ليعبدوني كما أمرتهم على لسان عزتي، وذلك حيث قلت: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا* لقد أحصاهم وعدهم عدا* وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).. فالعبادات منطقة تغلب عليها الجماعية بينما العبودية منطقة فرديات، وملاقاة الله لا تتم إلا للأفراد.. وواضح من الآيات توكيد الفردية، وربطها بالعبودية.. فنحن لا نلقى الله كجماعات، و إنما نلقاه كأفراد.. ونحن لا نلقاه إلا اذا تحققنا بالعبودية، إذ لا يلقى الرب إلا العبد.. فنحن مكلفون أساسا بتحقيق فرديتنا وأصالتنا، في معنى ما أننا مكلفون بتحقيق العبودية لله.. ومما يؤكد أمر الفردية في الإسلام، أن موازين الحساب لا تنصب يوم تنصب، الا للأفراد، وفي ذلك ترد العديد من الآيات القرآنية، منها قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وقوله: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).. وقوله تعالى: (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا).. وقوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم اول مرة).. وهذه الآية الأخيرة تؤكد ما ذهبنا اليه من أننا في الحقيقة اصحاب فرديات.. فالله تعالى قد خلقنا، أول مرة، أفرادا، ثم أننا سنرجع اليه، عندما نرجع، كأفراد، وهذا معنى الآية: (لقد جئتمونا فرادا كما خلقناكم اول مرة).. والرجوع إلى الله، إنما هو رجوع إلى الخلق الأول، رجوع إلى حالة (أحسن تقويم) التي كنا عليها، وهي الفطرة السوية، وهي الأصالة، وهي الفردية.. فنحن لا نلقى الله تعالى في الزمان، ولا في المكان، وإنما نلقاه فينا.. فهو تعالى قد قال في الحديث القدسي: (ما وسعني أرضي ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن) فنحن نعرف الله، عن طريق معرفتنا لأنفسنا، التي قلنا عنها انها في الحقيقة فردية، وفي هذا المعنى يجيء قول المعصوم (من عرف نفسه فقد عرف ربه).. ويجيء قول القرآن: (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها).. ومعرفة انفسنا هي معرفة حقيقة اننا عبيد، وأننا اصحاب فرديات متميزة لا يشبهنا فيها أحد، وبهذه المعرفة تتم لنا معرفة الله، ويتم لنا اللقاء به تعالى، وبهذا اللقاء نصل حياتنا بمصدرها، فتتوفر لها أسباب الكمال، وأسباب البقاء..
ولقد قلنا ان تحقيق الفردية هو قدرنا المقدور الذي لا فكاك لنا منه، وذلك لأنه مقدور لنا، ومفروض علينا لقاء الله، ونحن لا نلقاه إلا كأفراد.. وعن حتمية لقائنا الله يقول الله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه).. ويقول: (وإن إلى ربك المنتهى).. ويقول: (إن كل من في السموات والأرض الا آتي الرحمن عبدا).. فلقاء الله تعالى أمر لا بد كائن، أردنا أم لم نرد، فما من الله بد.. وبنفس هذا المعنى تحقيق الفردية أمر لا بد كائن، إن عاجلا أو آجلا، لأن لقاء الله لا يتم لنا الا كأفراد كما ذكرنا، فهو إذا لم يتم في هذه الدنيا، سيتم في الأخرى، وهذا معنى قوله تعالى: (إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى).. فنحن قد خلقنا فرادى، وسنعود إلى الله فرادى، كان على ربك حتما مقضيا.. وفي فترة ما بين الخلق الأول، والعودة إلى الله ذهلنا عن حقيقة أننا أفراد فانبهمت ذاتيتنا، وعشنا في التيه، مشغولين بالآفاق أكثر من إنشغالنا بأنفسنا.. أما الآن فقد حان الحين، وآن أوان الرجوع من التيه، بالعودة إلى أنفسنا، ومعرفتها، وأكتشاف مواهبها، وتفجير طاقاتها، حتى تتوحد فتتحقق لها فرديتها وأصالتها..
فاذا توكد ان الفردية، والأصالة، هي حقيقتنا، وهي تكليفنا الأساسي، وقدرنا المقدور، وهي كمالنا، كأفراد وكمجتمع، يصبح واجب كل منا أن يعمل في جد، وفي تشمير، على تحقيق فرديته، وذاتيته، وأن يعمل على إعانة كل أخوانه الآخرين على أن يحقق كل منهم فرديته، وأصالته، ويفجر طاقاته، ومواهبه، وهذا ما تحاول القيام به لكل الناس، الدعوة الجمهورية بإبرازها لحقيقة الإسلام التي كانت المقصود بالأصالة، في جميع رسالات السماء، ولكنها كانت تتحين الحين، وتتوقت الوقت.. ولقد جاءت حقيقة الإسلام في المصحف – في أصول القرآن – في القرآن المكي – وعلى ذلك أقام الجمهوريون الدعوة إلى (الرسالة الثانية من الإسلام) هي وحدها الحقيقة بتحقيق الأصالة و تحقيق الفردية..