بســــم الله الرحمن لارحيم
عزيزي / السيد علي حامد قنجاري ،
تحية طيبة مباركة ،
و بعد فقد اطلعت على بحث الأخ السيد طه الكردي عن خلق القرآن ، و لما كنت قد وعدتك بالتعليق فإني ، وفاءً بذلك الوعد ، أحرر هذه السطور ، والله المسئول أن يهدينا جميعاً إلى المحجة البيضاء ، و أن يهدي بنا ، إنه سميع مجيب : ـ
المعاني تؤخذ من الله لا من الكلمات ..
معلوم أن قضية خلق القرآن قضية قديمة، وكانت، في وقت إثارتها، فتنة من الفتن المشهورة في تاريخ الإسلام، فإذا أعادها علينا، اليوم، الأخ الكريم طه الكردي فإني لأنتظر من إعادتها خيراً كبيراً، يتمثل في دقة الفهم الذي يمكن أن ينتج عن التعمق في بحث الأصول التي تقوم عليها هذه القضية الخطيرة.. وأول ما تثيره هذه القضية هو الفرق بين الكلمة والمعنى.. فإن الكلمات، بحكم أنها نشأت من اضطراب الناس في حياتهم اليومية، الجسدية، قد أخذت معاني محدودة، وألف الناس أن يعتبروا هذه المعاني المحدودة أمراً تعطيه البداهة، ولا يحتاج إلى تعمق، ولا إلى إعمال فكر.. فلو سألت أحدهم عن معنى كلمة "مخلوق" لقال لك أن معناها معروف، فالمخلوق غير الخالق.. وهذا أمر بديهي.. ولكنك، إذا تعمقت القضية، وجدت أن معنى كلمة "مخلوق" أبعد شيء من أن يكون بديهياً.. وفي الحق، إن العارفين إنما يعتبرون الكلمات إشارات للمعاني.. فهي توجه إليها، ولا تعطيها، وإنما تؤخذ المعاني من الله، بحسن التوجه إليه، وتمام الحضور معه، وذلك هو توحيده.. فإذا قالت اللغة أن المخلوق غير الخالق، فإن التوحيد يقول ليس هناك غيرية.. فما في الكون إلا الله، وأسماؤه، وصفاته، وأفعاله، فالمخلوق هو مظهر الله، في مرتبة الفعل..
الباطل المطلق لا يدخل في الوجود ...
وليس في المخلوقات باطل بعينه.. أي من جهة نظر الله إلى الكون.. وإنما الباطل حكم عقلي، أو قل شرعي، من جهة نظر الإنسان إلى الكون.. والحكمة وراء الحق، والباطل، أن يتعلم الإنسان ليصير من التعدد إلى الوحدة، ذلك بأن العقل لا يدرك مدركاته إلا عن طريق الحواس، والحواس تعطي التعدد، والتعدد مظهر الواحد. وآخر منازل التعدد، في الترقي إلى الوحدة، هو الثنائية..الحق والباطل.. يقول تعالى في ذلك.. "وما خلقنا السماء، والأرض، وما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، كالمفسدين في الأرض؟ أم نجعل المتقين كالفجار؟ * كتاب أنزلناه إليك، مبارك، ليدبروا آياته، وليتذكر أولوا الألباب".."باطلاً" هنا تعني عبثاً ــــــ لغير حكمة ـــــ وقوله "ذلك" أي خلق السموات، والأرض، وما بينهما لغير حكمة هو "ظن الذين كفروا".. وقد توعدهم الله بالنار جزاء على هذا الظن الفاسد.. وحكمته من وجوب النار لهم إخراجهم من الفساد إلى الصلاح، أو قل، من الباطل إلى الحق.. وقد أنزل الله الكتاب ليغني من تداركته رحمة الله عن النار، وذلك بالتدبر والتذكر.. فقال: "كتاب أنزلناه إليك، مبارك، ليدبروا آياته، وليتذكر أولوا الألباب"..والحق معاني، وأواني للمعاني، "أي أجساد" والباطل معاني، وأواني للمعاني.. وأعلى معاني الحق الحقيقة، وأعلى أواني الحق أحمد.. وليس هنالك باطل مطلق، ليقابل الحق المطلق، لا في المعاني، ولا في الأواني، ذلك بأن الباطل المطلق لا يدخل في الوجود.. وأبعد معاني الباطل عن الحق الشرك، وأبعد أواني الباطل عن أحمد إبليس، ومع ذلك، فإن إبليس، وهو أكبر من مثل أقصى الشرك، إنما هو مظهر لله في مستوى الفعل، ومن أجل ذلك فإنه ليس باطلاَ مطلقاً.. فقول الله تعالى في ذلك "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" وقال المعصوم "من آمن فقد آمن بقضاء وقدر، ومن كفر فقد كفر بقضاء وقدر، رفعت الأقلام، وجفت الصحف"..إبليس عالم ولكنه ليس تقياً ..
ومعنى أن إبليس ليس باطلاً مطلقاً أن عين إبليس حق، ولكن علمه باطل، لأنه جهل بالله، وجهل بقدر نفسه، ومن أجل ذلك أشرك نفسه مع الله.. قال تعالى عنه.. "قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين * قال فأهبط منها، فما يكون لك أن تتكبر فيها، فأخرج أنك من الصاغرين" فالباطل، على ذلك، وجه من وجوه الحق، والجهل إنما هو أمر نسبي، فما هو علم اليوم، يصبح جهلاً غداً.. ولا يعني هذا، بالطبع، أن العلم المطلق غير موجود، بل الحق، والحق أقول، لا يكون النسبي إلا بالإشارة إلى المطلق.. وفي العبارة التي رد بها إبليس على سؤال الله تعالى إياه علم، ولكنه علم ناقص، ولذلك لم يكن نافعاً، ولا عاصماً عن الخطأ في السلوك، فإنه حق إن الله خلق إبليس من النار، وخلق آدم من الطين، ولكنه ليس حقاً أن النار أشرف من الطين عند الله، كما ظن إبليس.. وهذا يمكن أن يساق مثلاً في الجهل، أو قل في العلم الناقص الذي يختلط فيه الجهل بالعلم، ثم يكون نصيب الجهل فيه أكبر من نصيب العلم، فيصير إلى ما هو غالب عليه، وهو الجهل..