الجبلين في 16/3/1963
عزيزي بشير ـ تحية طيبة مباركة .. وبعد فقد طال الوقت على سؤالك ، وأنت لا بد مقدر ما نحن فيه من شغل شديد ، من ناحية الدعوة من جانب ، ومن ناحية أعمالنا الخاصة من جانب آخر .. فأرجو أن تكون عاذراً ..
سؤالك : ـ
ما هي الحكمة في أن الطهارة الكبرى لكل الجسد ، والصغرى لبعض الأعضاء ؟
أول ما تجب الإشارة إليه أن الطهارة، والنجاسة، أمران يتعلقان بالقلب، في المكان الأول، ثم بالجسد، في المكان الثاني، ثم بالثوب، في المكان الثالث، ثم بموضع العبادة، في المكان الرابع. والمهم هو القلب، فإنه بيت الله وموضع نظر الله إلى العبد. "وعهدنا إلى إبراهيم، وإسماعيل، أن طهرا بيتي للطائفين، والعاكفين، والركع السجود" ومن نجاسة البيت الحرام أن تكون فيه أصنام الحجارة.. ومن نجاسة قلب العبد أن تكون فيه أصنام الشهوات، والعادات، والأغيار. وقد جعلت النجاسة الحسية دليلاً على النجاسة المعنوية.. أي نجاسة أعضاء الجسد جعلت دليلاً على نجاسة القلب للقرينة القائمة بينهما، وقد وردت إليها الإشارة في قول المعصوم: "إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائره، ألا وهي القلب".
وهناك حديث عن المسيح، بلغنا، يقول فيه: "ليس ما يدخل الفم ينجس الجسد، وإنما ينجس الجسد ما يخرج من الفم" يعني المتحدث فيما لا يعنيه.. يعني القول بجهالة: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".. ويعني ما عناه المعصوم حين قال: "وهل يكب الناس على وجوههم في جهنم غير حصائد ألسنتهم؟" وطهارة النجاسة الحسية إنما تكون بالماء، ولا تكون الطهارة المعنوية إلا بالعلم ــــــ فكأن الماء رمز للعلم: "أنزل من السماء ماء، فسالت أودية بقدرها".. فالماء، هنا، في التفسير الباطني، "القرآن".. والأودية" القلوب.. "
فإذا قام المتطهر بغسل الأعضاء الظاهرية فقد وجب أن يستحضر العلم، دائماً، ليقوم بتطهير قلبه في نفس الوقت الذي يطهر فيه أعضاءه..
فإذا أخذت الطهارة الصغرى، مثلاً، فإنها إنما تنصب على جميع الحواس الخمس، يزاد عليها الجوارح التي يكون بها الكسب والاكتساب، مثل الرأس، والساعد، والرجل، والدبر، والقبل.. وهذه الحواس، والجوارح، هي أبواب القلب على العالم الخارجي فهي تدخل عليه الظلام، إذا استعملت استعمالاً خاطئاً، وتخرج منه الظلام، وتدخل عليه النور، إذا استعملت استعمالاً صالحاً.. هي أبواب النار، وهي أبواب الجنة.. ولا تكون الطهارة الصغرى مؤدية للمراد منها إلا إذا أقيمت عن علم.. وأول العلم النية فيها.. فإنه لا يكفي أن يقول المتوضئ مثلاً: "نويت أن أتوضأ" ثم يذهب في غسل أعضاء الوضوء، كما يفعل الناس الآن.. ذلك بأن النية، عند العارفين، عمل متجدد، فهي يجب أن تصحب سائر حركات الوضوء.. ويجب أن يستحضر المتوضئ ما اكتسب بالعضو الذي يطهره بالماء، مما أدخل ظلاماً على القلب، فنجسه، فإذا ما تذكر خطيئة ارتكبت ندم، واستغفر، وتاب إلى ربه.. مثلاً، إذا أخذ العارف إبريقه، وذهب ليستبرئ، أخذ في التفكير في مجلسه ذلك.. هل الطعام الذي يتغوطه، ويتبوله الآن، كان قد كسب من حلال؟ وهل أدى فيه ما يجب من حق للسائل، والمحروم؟ وهل أسرف فيه؟ أم هل اعتدل؟ فإذا تذكر خطأه في أي ذلك استغفر.. وبالاستغفار والندم، يطهر القلب.. ثم إنه، إذا فرغ من أمر الطعام، أخذ يتذكر هل حفظ جوارحه تلك؟ أم هل فرط فيها؟ وهكذا، وكلما تذكر أمراً ندم، واستغفر..
ثم هو إذا أخذ في الوضوء بغسل يديه، يتذكر ما اجترحه بهما.. هل مس بهما محرماً عليه؟ هل آذى بهما؟ هل قبضهما عن معروف؟ الخ، الخ.. فإذا تذكر شيئاً ندم، واستغفر، وتاب، وهكذا يفعل بجميع أعضائه، حتى إذا انتهى من الوضوء إلى رجليه كانت النية قد تمت، وكذلك طهارة الأعضاء بالماء، وطهارة القلب بالعلم.. ولقد أجملت لك محاسبة المحاسب لنفسه لأنك تعلمها جيداً، ولا يتسع زمني الحاضر للتفصيل..
وكما قلنا، فإن النجاسة الحقيقية هي نجاسة القلب، بالغفلة عن الله.. ولا تكون نجاسة القلب بالغفلة عن الله إلا بما تجترحه الجوارح من أخطاء، لأن هذه الجوارح هي أبواب القلب على عالم النور، وعلى عالم الظلام.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "كلا، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" وإنما فرضت الطهارة الصغرى على الأعضاء التي فرضت عليها لتكون طريقاً إلى تطهير القلب بماء المعرفة، كما سبق المثل..
والغفلة عن الله درجات، بعضها أشد من بعض، وسببها حب الدنيا.. وحب الدنيا، ممثلاً، في شهوة البطن، والفرج، وما تستتبع هذه الشهوة من الحيل، والحبائل.. وقد جاء الوضوء للتطهير من شهوة البطن، وكذلك جعلت موجباته خروج الريح، والبول، والغائط.. وجاء الغسل للتطهير من شهوة الفرج.. وشهوة الفرج أقوى من شهوة البطن، ولذلك فإن الغفلة بمقتضاها أشد من الغفلة بمقتضى شهوة البطن.. والإفراز المنوي، الذي به تتم شهوة الفرج، يخرج من كل ذرات الجسد، ولذلك فقد زادت الطهارة منه على أعضاء الوضوء، وانصبت على سائر أعضاء الجسد، وذلك لشدة استغراق اللذة لجميع ذرات الجسد.. والدليل على أن الغفلة، عن الله، في حالة شهوة الفرج، أشد من الغفلة عنه، في حالة شهوة البطن، لا يحتاج إلى طويل برهان، فإنه معروف، بالتجربة، أن الرجل إذا كان موزع البال، غير مجرد القصد، وموحده، في حالة المواقعة، فإنه لا يتم له الانتصاب، ولا يأتي منه شيء، ثم إنه لا تكون منه المواقعة حتى تستغرق الشهوة فكره، في تلك اللحظة، استغراقاً تاماً، كاملاً، لا يتأتى مثله لغير هذه الشهوة.. فالحكمة، إذن، في أن الطهارة الكبرى لكل الجسد، والطهارة الصغرى لبعض الأعضاء، إنما تلتمس في التفاوت في مبلغ الغفلة، عن الله، في كلتيهما.. ولقد عرف العارفون أن شهوة البطن، مع إنها سابقة على شهوة الفرج، غير أن هذه آصل من تلك.. وفي التماس اللذة، في غير الله، انشغال بالنعمة، عن المنعم، وهذا يدخل على القلب من نجاسة الغفلة ما هو الحكمة وراء الطهارات، من حيث هي، صغرى وكبرى.. ولكي يقلل العارفون من غفلتهم لدى التماسهم شهوتي البطن والفرج، اتجهوا بهما إلى الله، بالنية الصالحة، فهم إن أكلوا، نووا بذلك القوة على العبادة، وإن توسعوا في أطايب الأكل، في غير إسراف، نووا تدريج النفس على هينة، ليحملوها على العزائم، والمجاهدة، وهي طائعة، ومؤاتية، وذلك لحسن السياسة الرشيدة، والتأتي الحكيم.. وهم، إن نكحوا، نووا إمتاع الحليلة، وصيانتها.. ونووا ابتغاء الذرية الصالحة، ونووا، إلى ذلك كله، إمتاع النفس من اللذة الحلال، لترى المنعم في النعمة، فتأنس إليه، وتحبه، وتتعلق به.. ومع كل أولئك، فهم يستغفرون الله كثيراً عند فراغهم من لذاتهم، ليطهروا قلوبهم من غفلة التماس اللذة في غيره..
قلنا، في أول هذا الخطاب: "وطهارة النجاسة الحسية إنما تكون بالماء" ولا يفوتنا أن الصعيد بديل عن الماء، حيث تعذر وجوده، أو تعذر استعماله.. وإنما جعل الصعيد مطهراً للأجساد لأنه أصلها الذي منه نشأت، فإذا ما رجعت إليه، تلتمس عنده الطهارة من النجاسة الحسية، وجب أن ترجع القلوب إلى أصلها الذي منه نشأت تلتمس عنده الطهارة من النجاسة المعنوية.. والأصل الذي نشأت منه القلوب هو الله، جل وعلا.. فرجع الأمر إلى ما سبق ذكره..
وإنما يُكتفي في الطهارة الترابية بمسح الوجه، واليدين، لأن الوجه صفحة القلب، واليدين صفحة العقل.. والمرء بأصغريه: قلبه، ولسانه، أي قلبه، وعقله.. ما أرى إلا أن الحديث سيطول، ولا يتسع له الوقت الحاضر، فإن رأيت أن هذا لا يكفيك فأكتب لي عما بدا، وسأعود.. والله يتولى إرشادي، وإرشادكم..
المخلص
محمود محمد طه