اللغة حجاب في المعاني...
حجاب اللغة، الذي أشرنا إليه في صدر هذا الحديث، ظاهر في العبارة المنسوبة للإمام محمد عبده، فأنت، حين تسمعه يقول.. "هذا القرآن المكتوب من حروف هجائية، التي ينطق بها كل إنسان، وأنها مادية، بشرية"، تشعر بأن كل شيء معروف بداهة، ولكن إذا أمعنت النظر، وسألت نفسك.. ما هي الحروف الهجائية؟ أو ما هي المادة؟ لوجدت أنك تعرف المظهر فقط، وتجهل الحقيقة التي وراء المظهر، وبذلك تكون خرجت بحيرة، بدلاً من العلم الذي ضللتك العبارة عنه، وأوهمتك أنك تملكه، من قبيل البداهة، وأخونا طه الكردي أورد في بحثه طرفاً من الآية حين أورد.. "إنا جعلناه قرآناً عربياً" ولو أورد كل الآية.. ثم أورد الآية السابقة لها، والآية اللاحقة، لأعانه ذلك كثيراً.. فلنوردها نحن، ولنلفت نظره إليها، فلعله يحدث فهماً جديداً لموقفه.. قال تعالى: "حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآناً، عربياً، لعلكم تعقلون * وإنه، في أم الكتاب لدينا، لعلي حكيم" أوردنا هذه الآيات ليتفكر فيها الأخ السيد طه، لا ليكتفي منها بأن يذهب ليدلل على أن كلمة "جعل" تعني كلمة "خلق" فإن "الجعل" و"الخلق" كيفهما مجهول، وإن خيل إليه أنه يعرفه، والله تعالى يقول "حم" وهي آية تمثل قمة القرآن، وما من مفسر للقرآن إلا يقول عنها "الله أعلم بمراده".. ثم يقول تعالى "إنا جعلناه قرآناً، عربياً، لعلكم تعقلون" فيفهم الفاهمون أن الله صب معاني القرآن في قوالب التعبير العربي، فحملت منه ما أطاقت. وذلك الصنيع إنما جرى بفضل الله علينا لعلنا نعقل عنه.. ثم قال تعالى عن القرآن "وإنه في، أم الكتاب لدينا، لعلي حكيم" فعرفنا أيضاً أن القرآن أصله عند الله.. و"لدينا" هذه لا تشير إلى المكان، كما جرت العادة بها في اللغة العربية، وهي لا تشير إلى المكان، لأن الله تبارك وتعالى، لا يشمله المكان، وإنما هي تشير إلى التناهي في الكمال، حتى تنتهي إلى الذات العلية.. فالقرآن في حقيقته هو الله.. هو ذات الله تنزلت في المستويات المختلفة. لماذا تنزلت؟ الجواب "لعلكم تعقلون" .. وهذا يذكرنا بالحديث القدسي الذي وردت الإشارة إليه .. "كنت كنزاً مخفياً، فأردت أن أُعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني".
للقرآن ظاهر وباطن...
أحب أن يعلم الأخ الكريم السيد طه أن القرآن له "ظاهر"، وله "باطن"، وله "حد"، وله "مطلع"... فأما ظاهره فهو ما تعطيه اللغة العربية، وهو يطابق آيات الآفاق، وأما باطنه فهو أسرار النفس البشرية.. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم"، وأما "حده" فهو توظيفه، كله، لتحقيق التوحيد. وأما "مطلعه" فهو كونه، كله، في أي حرف منه، بل إنه، كله، في "النقطة" التي عندما سالت، وساحت، تكونت منها صور الحروف، المختلفة، المعروفة عندنا "بالحروف الهجائية"..
تقديس القرآن واجب...
لقد تحدث الأخ السيد طه كثيراً في بحثه ليثبت أن القرآن مخلوق، وهو بحث لا قيمة له، لأنه هو لا يفهم ما يقول.. ورأيت أن متابعته للرد عليه جملة، جملة، مضيعة للوقت، وسير في التيه.. وأحب أن يعلم الأخ الكريم أن الورع منع الأئمة الماضين فلم يقولوا بأن القرآن مخلوق، محتملين في سبيل هذا تعذيب الجهال من المسلطين، لأنهم أشفقوا أن يذهب هذا التقرير بالتقديس الواجب للقرآن، وهذا التقديس هو البديل الوحيد عن فهم أسرار القرآن.. فإن من لا يفهم القرآن، ولا يجد في نفسه تقديسه، إلى أعلى درجات التقديس، إنما هو محروم، ومطرود، من الحضرة الإلهية.
عزيزي على.. لا بد لي من الوقوف هنا، لأني مشغول بكتابة أخرى، أجلتها لأكتب لك.. وفي الحق، إني كنت دائماً محاولاً أن أضغط الكتابة في هذا الموضوع لئلا تطول، وذلك لأن مجال القول فيه ذو سعة، ويمكن أن يستمر إلى مدى بعيد.. ثم لا يمل.. ولكن للضرورة أحكام.. ثم إني أحب أن أقول إني سأحاول أن أرد على أي أسئلة تقوم ببالك في هذه السطور، وسأرد كتابةَ حتى تضمها على بعض.. أرجو الله أن يجعلك من أهل البصائر والأبصار.
وتكرم بقبول فائق احترامي
المخلص
محمود محمد طه
أمدرمان 7/7/1969 م