لكل ذرة في الوجود شكل هرمي ..
نريد أن نخرج من هذا الاستطراد بأن العلم والجهل وجهان لعملة واحدة، التفاوت بينهما تفاوت مقدار.. ونريد من هذا الاستطراد أن نقرر أن الحق والباطل وجهان أيضاً لأمر واحد، وهما معاً مظهران للحقيقة الواحدة..
الحق مظهر للحقيقة الباطل فيها مغلوب، فهو من ثم حق.. والباطل مظهر للحقيقة الحق فيها مغلوب، وهو من ثم باطل.. وقد قلنا إن أحمد إناء الحق، وأحمد مخلوق.. وقلنا أن إبليس إناء الباطل، وإبليس مخلوق، والفرق بين المخلوقين أن أحمد هو الوجه القريب من الحقيقة، وإبليس هو الوجه البعيد.. وقول الله تعالى "كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك، ذو الجلال والإكرام" يعني أن الوجود له شكل هرمي، قمته أحمد، وقاعدته إبليس.. فأحمد هو وجه الوجود الذي يلي الله، وهو من ثم باق، لا يفنى إلا قليلاً.. وإبليس هو وجه الوجود الآخر، البعيد من الله، وهو من ثم فان، لا يبقى إلا قليلاً.. وفناؤه إنما هو تقلبه في الصور، يطلب البقاء، والترقي، والتطور المستمر في مراقي الحق.. وكل ذرة من ذراري الوجود لها شكل هرمي.. الحق، في ذلك، والباطل سواء.. أحمد وإبليس في أمر الشكل الهرمي سواء.. ولكن التفاوت بينهما في المقدار.. بمعنى أن الهرم الأحمدي رفيع القمة رفيع القاعدة، وأما الهرم الإبليسي فإنه كثيف القمة، كثيف القاعدة.. والقمة، والقاعدة، وما يجري من تفاوت في الدرجات بين القمة والقاعدة إنما هي مظاهر الله.. والله، تبارك وتعالى، في حد ذاته، غني عن المظاهر، وإنما ظهر لحاجتنا نحن لمعرفته، وبمظاهره عرفناه.. وهناك حديث قدسي قال الله تعالى فيه.. "كنت كنزاً مخفياً، فأردت أن أُعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني" والكنز المخفي إشارة إلى الذات في مرتبة الصرافة، وهي مرتبة فوق العبارة، وفوق الإشارة، لا تعرف.. فلما أراد تعالى أن يعرفه عباده تنزل من مرتبة الصرافة إلى مرتبة الاسم، فسمى نفسه الله.. ثم تنزل إلى مرتبة الصفة، فسمى نفسه الرحمن، ثم تنزل إلى مرتبة الفعل، فسمى نفسه الرحيم، ثم تعلقت بهذه الأسماء، الأسماء الحسنى، التي سمى بها تعالى نفسه، ثم قال "قل أدعوا الله، أو أدعوا الرحمن، أياً ما تدعوا، فله الأسماء الحسنى" والأسماء الحسنى تنزلات في المدارج، وهي تتفاوت، تفاوت مقدار، وأقربها إلى فهمنا الأسماء ذات الضد، مثل المحيي، المميت، أو الضار، النافع، أو المعز، المذل.. وإنما كانت هذه الأسماء الزوجية أقرب إلى فهمنا لأن الازدواجية، بطبعها، أقرب إلى إدراك العقول.. ومن هذا الباب فإن الله هو الذي يهدي، وهو الذي يضل.. قال تعالى: "يضل به كثيراً، ويهدي به كثيراً، وما يضل به إلا الفاسقين" فمن ناحية الهدى، والإضلال، فإن أحمد مظهر اسم الله الهادي، وإبليس مظهر اسم الله المضل.. فإذا استقر هذا في الأذهان يستقر أيضاً أن الوجود كله مظهر الله في مستويات مختلفة، وما نسميه نحن الخلق ما هو غير الخالق..
وحدة الوجود ..
وسيقول قائل إن هذه هي وحدة الوجود، فليعلم هذا أن وحدة الوجود هي التوحيد، وما أنكرها، من أنكرها، إلا لجهله بحقيقتها، فوحدة الوجود تعني أن ليس في الوجود إلا فاعل واحد، ومريد واحد، وكل ما في الوجود إنما هو أثر لإرادة واحدة، لا تتعدد..
هل القرآن مخلوق ؟
فالمخلوق إذن هو مظهر الخالق.. ومظهر الخالق شمل أحمد في قمة الهرم، وإبليس في قاعدة الهرم.. فهل القرآن مخلوق بهذا المعنى؟ الجواب نعم ولا.. نعم، لأن القرآن مخلوق بالمعنى الذي به أحمد مخلوق، ولا، لأن القرآن ليس مخلوقاً بالمعنى الذي به إبليس مخلوق.. وقد قلنا أن أحمد حق، وإبليس باطل.. والله هو خالق الحق، والباطل، أو قل أن الحق، والباطل هما مظهران لله.. لله في مظهر الباطل إرادة، وله في مظهر الحق رضا.. وقد أرسل الله الرسل لينقلوا عباده مما يريد إلى ما يرضى، فإنه سبحانه، وتعالى، أراد الكفر، وأراد الإيمان، ولكنه لا يرضى الكفر، وإنما يرضى الإيمان.. قال تعالى.. "إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم".. هو خالق الظلمات وخالق النور.. الظلمات مظهره، والنور مظهره.. وأرسل محمداً ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذنه، ومن أجل ذلك أنزل القرآن، قال تعالى.. "الر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربهم، إلى صراط العزيز الحميد" فالقرآن حق، كله، يزهق الله به الباطل، ونور، كله، يخرج الله به الناس، من الظلمات، إلى النور.. فهو مخلوق في هذا المستوى.. هو مظهر الله.. هو الله المتنزل من مستويات صرافة الذات، إلى مستويات الحقيقة، إلى مستويات الحق.. ولا تجد الذين يخوضون في خلق القرآن، كما فعل أخونا السيد طه الكردي، إلا ضعافاً في التوحيد، فهم يظنون أن القرآن هو ما تعطيه اللغة العربية من المعاني.. ويورد هنا السيد طه الكردي الكثير من.. "إنا جعلناه قرآناً عربياً" وأخواتها.. ويذكر في باب الاحتجاج، عبارة منسوبة للإمام محمد عبده يقول فيها.. "إني أربأ بإمام كأحمد بن حنبل أن يقول إن هذا القرآن، المكتوب من حروف هجائية، التي ينطق بها كل إنسان، وأنها مادية، بشرية، غير مخلوق"..