مفتاح شخصيته
لقد نشأ السيد الصادق في البيت الذي يتزعم، من حيث العدد، أكبر طائفة دينية عندنا في السودان.. وهي طائفة الأنصار.. ومن المعروف في البيوتات الطائفية عندنا، أن أبناء زعماء الطائفة يجدون من الإتباع كل تقديس، وتوقير، لا فرق، في ذلك، بين الأطفال والكبار، فجميعهم (أسياد)، فحتي الأطفال الصغار مطاعون من جميع الأتباع بما فيهم الشيوخ، فهم لا ترد لهم حاجة.. في مثل هذا الجو نشأ الصادق، وترعرع، فهو لم يعرف منذ نعومة أظفاره سوي أنه (سيد) مطاع.. وقد ظلت هذه (السيادة) تتوكد في نفسه كلما شب، وكلما تفتحت عيناه علي ضروب من الطاعة له تصل الي حد التضحية بالنفس في سبيل مرضاته..
و لم يكد يبلغ سن الشباب حتي تهيأت الظروف التي جعلته زعيم الطائفة، وهو لم يبلغ بعد سن الثلاثين.. وكان يري الآلاف من الأنصار يخضعون لتوجيهاته، ويتحركون بإشارته، وهم علي إستعداد تام أن يضحوا بأنفسهم في سبيله..
ثم إنه لم يلبث أن أصبح رئيسا للحكومة في تلك السن المبكرة، وأصبحت البلاد جميعها تحت زعامته.. والأنصار يعتقدون أن لهم حقا زائدا في هذه البلاد، ويعتقدون أن أمجادها أمجادهم، وهم ورثتها.. وكان الصادق كثيرا ما يسمع هتافات الآلاف من الأنصار داوية: (الله أكبر ولله الحمد.. البلد بلدنا ونحن أسيادها).. فلا يملك إلا أن يستجيب لهذه الهتافات، فتتوكد عنده أحقيته التي ما ينبغي أن تنازع - في السيادة علي البلاد.. ثم يزيد من توكيد هذا المعني في نفس الصادق تلك الهتافات الداوية (الصادق أمل الأمة.. الصادق أمل الأمة) فيزداد يقينه بأحقية الطائفة في فرض سيادتها علي البلاد، وفي أحقيته هو في فرض زعامته علي الطائفة، وعلي البلاد معا..
فالنفس البشرية، بطبيعة ميلها، يصعب عليها أن تمتنع علي دواعي الأمر والنهي فيها.. وما أصدق الشاعر الذي قال:-
لقد صبرت عن لذة العيش أنفس * وما صبرت عن لذة النهي والأمر
و إذا وجدت النفس الفرصة لإشباع ميلها الي النهي والأمر فإنه يبرز ويعبر عن نفسه، وهو، من خلال هذا التعبير، ينمو، ويقوي ويستفحل.. ثم أن النفس، من بعد ذلك، تجد أنه من السهل عليها أن تجد الحيل والمبررات التي تسوقها لتقتنع بأحقيتها في النهي والأمر، ثم تفلسف هذا الإقتناع لتقنع به الآخرين..
و من الأمثلة التي يمكن أن تساق للتدليل علي جعل النفس، في تبرير شعورها بالتفوق وتبرير ميلها الي النهي والأمر، قول الصادق في صفحة 19 من كتابه (يسألونك عن المهدية) فقد قال:
(هؤلاء العمالقة يستجيب الواحد منهم لحاجة جماعية عميقة، ويتحدث بالمنطق السائد في زمانه، وبتعبير المعارف المتاحة له الرائجة في ذلك الزمان.. ومن صفات هؤلاء العمالقة أن الواحد منهم يفوق أقرانه بثقة مستمدة من يقينه بأنه ملهم) والعبارة التي تهمنا هنا قوله: (و من صفات هؤلاء العمالقة أن الواحد منهم يفوق أقرانه بثقة مستمدة من يقينه بأنه ملهم)..