إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الصادق المهدي!! والقيادة الملهمة!! والحق المقدس؟!

الخاتمة


ليس هذا الكتاب حربا علي شخص الصادق المهدي، فإن شخصه، كما قد أكدنا، موضع حبنا، وإنما هو حرب علي ما يستولي علي نفس الصادق من حب للسلطة، يتعداه الي سواه ليؤثر علي مجريات الأمور في البلاد. والصادق، نفسه مرجو لأن يحدث هذا الكتاب في نفسه أثرا، فيضع يده علي مشكلته هو، ويطب لها، حتي يستنقذ مصير نفسه، ويكفي أتباعه، ويكفي البلاد، عواقب طموحه الكبير.. الصادق المهدي مشكلته أن نفسه هي محور كل إفكاره السياسية، وممارساته السياسية. فهو، عند نفسه، صاحب (الحق المقدس) في السلطة، و(القائد الملهم) الذي لا خلاص للبلاد إلا علي يديه! وهو، عند أتباعه، (أمل الأمة) لتحقيق دعوي الأنصار العريضة: (البلد بلدنا، ونحن أسيادها)!! وهو، بعد، صاحب دعوة الي (تحديث) المهدية، و(بعث) الإسلام!!
و إليكم سجلا للتاريخ السياسي القريب للصادق المهدي للتدليل علي ما ذهبنا إليه من حب السلطة الذي يستولي علي هذه الشخصية:
(1) ((ورث)) رئاسة حزب الأمة بحكم وضعه الطائفي، ثم لما بلغ السن التي تؤهله للنيابة البرلمانية، أخلي له أحد نواب حزبه دائرته، بإستقالته من الجمعية التأسيسية، فترشح هو فيها، وفاز بالتزكية، ليدخل الجمعية التأسيسية!! ذلك بأن (نفس) الصادق، عنده، هي الغاية التي توظف أية وسيلة، وكل وسيلة، في سبيلها، حتي ولو كان ذلك علي حساب كرامة أحد أعضاء حزبه، وكرامة ناخبيه، ونظافة الحياة السياسية!!
(2) ثم أخذت أعراض حبه للسلطة تبرز!! وكانت تقف أمام طموحه الي السلطة عقبتان: (إمامة) الأنصار، و(رئاسة) محمد أحمد محجوب للوزارة.. فخرج علي عمه (الإمام) منشقا بجناح من الحزب، مدعيا الخروج علي الطائفية، وهو الطائفي النشأة، الذي لم يمكن له من البروز السياسي، كما أسلفنا القول، إلا وضعه الطائفي..
(3) وأئتلف مع الحزب الوطني الإتحادي لإسقاط حكومة محمد أحمد محجوب- رحمه الله- وتولي هو رئاسة الوزارة، وقد قال السيد محمد أحمد محجوب في جلسة الجمعية التأسيسية التي واجه فيها سحب الثقة بحكومته، يوم الإثنين 25/7/1966، (لم يقدح إقتراح سحب الثقة بسبب عجز الحكومة عن القيام بأي عمل وأنها لم تقدم عملا، بل قدم لأسباب شخصية لا تتعلق بشخصية رئيس الوزراء، بل بالذين يريدون أن يكونوا كل شيء دون إعتبار لما يدور حولهم..) هذا ما قاله السيد محمد أحمد محجوب وهو أحد زعماء حزب الأمة الذين عرفوا الصادق عن تجربة ومعايشة، فعرفوا أنه يريد أن يكون "كل شيء"
(4) إشترك في تعديل الدستور لإسقاط عضوية النواب الشيوعيين من الجمعية التأسيسية وقد كانوا يشكلون تهديدا " لقيادته الملهمة"، بنقدهم الشديد لها، ثم لما أعلنت المحكمة العليا عدم دستورية "حل الحزب الشيوعي" أعلن هو أن حكم المحكمة العليا قد كان حكما تقريريا، أي أن السلطة التنفيذية غير ملزمة بتنفيذه! وبذلك تم في عهد حكومته، وعلي يديها، أول إنتهاك للحقوق الأساسية، وأول إمتهان لحرمة القضاء، منذ بداية عهود الحكم "الديمقراطي" في البلاد! إن غاية الغايات، عند الصادق، هي "نفسه".. ومبلغ إهتمامه أن يزيل عن طريق هذه الغاية أي معوق يعوقها حتي ولو كان الحريات الأساسية، وسيادة القانون.
5) وقدم الصادق منهاج سياسة حكومته أمام الجمعية التأسيسية يوم 10/8/1966 قائلا (لقد شهدت بلادنا في السنوات القليلة الماضية تدهورا في حالها الإقتصادي، وتعاقبت السنوات الأربع الأخيرة، وتبلورت أثناءها إتجاهات لازمت حياة بلادنا الإقتصادية حتي وصلت بها الي ما هي عليه اليوم..) وأشار الي هذه الإتجاهات، وأهمها (("1" إنخفاض مستمر في أرصدة بلادنا من العملات الأجنبية منذ عام 61/62 وقد أخذ هذا الإنخفاض شكلا منتظما في العامين الماضيين..) ("2" زيادة مستمرة في مصروفات الحكومة أدت الي إستدانة الحكومة من النظام المصرفي (البنك المركزي) فكانت هذه المديونية تزيد تزايدا مستمرا..) وإنقاذا لهذا الموقف الإقتصادي الذي وصفه السيد الصادق بالتدهور قال (إن مواطنينا أصبحوا يصيحون صيحات المستغيث من هذا الواقع فوجب علينا جميعا النجدة، وإنا لنأمل أن نكون رأس الرمح للإصلاح، وأن نمنح بلادنا القيادة، وأن تمنحنا النقد والتأييد لنوقف هذا التدهور في كل ميادينه) فالصادق كان يأمل أن يكون "رأس الرمح للإصلاح"، ويأمل "أن يمنح البلاد القيادة".. وهو يعني "القيادة الملهمة" التي ليس لها إلا هو!! فلنر ماذا كانت نتيجة "الإصلاح" الذي قام به لإيقاف ذلك التدهور الإقتصادي.. لقد وصف السيد محمد أحمد محجوب، عندما تولي رئاسة الحكومة مرة أخري، الموقف المالي والإقتصادي الذي ورثه من حكومة الصادق، وذلك في جلسة الجمعية التأسيسية يوم 2/6/1967 بما يلي: (إن أهم الظواهر التي تتسم بها الصورة المالية والأقتصادية للبلاد من واقع تحليل الأرقام الواردة من وزارة المالية هي: أولا- إتجاه الأرصدة الأجنبية نحو التدهور إذ أن الرصيد الحالي لا يزيد عن الغطاء الرسمي للنقد المتداول الا ببضعة مئات من آلاف الجنيهات، أي أقل من مليون جنيه.
ثانيا- إن المديونية من بنك السودان قد بلغت ذروتها، وتجاوزت الحد المسموح به..) ثم أخذ السيد محمد أحمد محجوب يعدد المظاهر الأخري للتدهور الإقتصادي الذي ورثته من حكومة الصادق، وحدد المشاكل العاجلة التي تواجه حكومته، ومنها: (أولا - مشكلة العطالة التي تتفاقم كل يوم. ثانيا- مشكلة إرتفاع تكاليف المعيشة ثالثا- مشكلة تزايد المصروفات الجارية للدولة وقصور الموارد عن تغطية كل متطلبات التنمية..)
هذا هو حصاد حكومة الصادق المهدي، وهذه هي حصيلة "قيادته الملهمة"، وحصيلة "الثرثرة" التي كان يملأ بها أجهزة الإعلام وهو يتحدث عن فلسفته وبرنامجه في "الإصلاح".. قد تكون الصورة التي أعطاها السيد محمد أحمد محجوب للوضع الإقتصادي الذي ورثه عن حكم الصادق صورة صحيحة ولكن الصادق بالطبع غير مسئول عنها وإنما هي تركة قديمة متخلفة عن الحكومات التي سبقت الصادق، ولكنها علي كل حال، إنما كانت تعبر عن عجز حقيقي عن "الإصلاح" الإقتصادي، بل أن هناك من الدلائل الواضحة ما يدل علي تمادي التدهور الإقتصادي في عهد الصادق.. فقد إضطرت حكومة الصادق، ولأول مرة في تاريخ السودان، لأن تستورد "الذرة" من الخارج!! يجب أن يكون واضحا فإنا عندما نورد أقوال خصوم الصادق السياسيين لا نعطيها كل الوزن لأننا نعرف أن فيها تحاملا، ولكنها بالطبع ليست عديمة الوزن تماما..
(6) وحب السلطة الذي يستولي علي نفس الصادق تحدث عنه الشريف حسين الهندي أمام الجمعية التأسيسية في جلسة سقوط حكومة الصادق يوم 11/5/1967 فقال: (إن السيد رئيس الوزراء قد قام بهجوم مفتعل يسدد الطعنات ويثير الشكوك والشبهات ويصرف الناس زهاء الأربعة أشهر في تشهيره بالإئتلاف الأول ليكون رئيسا للوزراء، حتي لا يدخل هذه القاعة وهو شخص عادي). وفي تلك الجلسة إقترح الصادق (انه من رأي هذه الجمعية تأكيد ثقتها في رئيس الوزراء وتأييد برنامجه لتنظيم فترة الإنتقال القادمة الي حين بداية تطبيق الدستور) كما أقترح (أن تؤيد قيام حكومة قومية أكونها بالتشاور مع رؤساء الأحزاب المختلفة وتمارس حكم السودان ما دامت متمتعة بتأييد أغلبية أعضاء الجمعية).. قيام حكومة قومية يكونها!! ههنا يكمن إهتمام الصادق الأساسي!! وقد علق علي ذلك الشريف حسين الهندي في تلك الجلسة بقوله: (كان السيد رئيس الوزراء يري أن ينتهي الإئتلاف بإنتهاء الجمعية في التاسع من يونيو، وكنا نري فضه الآن حرصا علي توفير الوقت الكافي لإجراءآت تشكيل الحكومة القومية). ثم قال (و لا ندري سببا ليتنكر السيد رئيس الوزراء للإتفاق الذي تم بيننا إلا أنه أراد ان يفاجيء الجمعية الموقرة ليؤكد انه هو، لا غيره يستطيع أن يترأس الوزارة، وليس لأحد غيره أن يكون رئيسا للوزارة). هذا هو إهتمام الصادق الأساسي!!
و "سقطت" حكومة الصادق دون أن تحقق أية راية من رايات "الإصلاح" السبع التي رفعها الصادق عند توليه رئاسة الحكومة.
(7) وماذا حقق الصادق أيام حكمه في سبيل حل مشكلة الجنوب؟؟ بل ماذا كان برنامجه، لحل مشكلة الجنوب؟؟ إن أول حلوله لمشكلة الجنوب التي طرحها أمام الجمعية التأسيسية يوم 10/8/1966 هو ("1" مضاعفة الجهد لتحقيق الأمن والنظام في المديريات الجنوبية وذلك بالقضاء علي حركة التمرد)!! هذه إحدي الوسائل التي كان يراها الصادق المهدي لحل مشكلة الجنوب.. "القضاء علي حركة التمرد"!! وما جدوي مقترحاته بشأن الحل السياسي ما دام هناك إصرار علي حالة الحرب؟ إن مثل هذه السياسة غير الواعية، وغير الإنسانية، أيضا، لهي من أسباب تفاقم مشكلة الجنوب.. والصادق المهدي ممن يتحملون مسئولية الحرب الأهلية التي دارت بين الشمال والجنوب وأهرقت فيها الدماء الزكية..
(8) ومضت الجمعية التأسيسية الأولي التي أعقبت ثورة أكتوبر، وأجريت الإنتخابات للجمعية الثانية، فسقط الصادق نفسه في دائرته، وسقط كثير من زعماء جناح حزبه، وسقط الترابي في دائرته، وسقط كثير من زعماء (مؤتمر القوي الجديدة)!! ولم يبق أمام الصادق للإحتفاظ بحطام زعامته سوي العودة الي أحضان "الإمام"، فصدر بيان توحيد حزب الأمة في 13/4/1969، وسقطت جميع دعاوي الصادق المهدي بخروجه علي الطائفية.. وأعلن الصادق المهدي في ذلك البيان، بوصفه رئيسا لحزب الأمة المتحد: (بالنظر لزعامة الإمام الهادي المهدي في الحزب والبلاد فإنه هو المرشح الوحيد لحزب الأمة لرئاسة الجمهورية)!!
(9) وعاد الصادق المهدي الي حيث بدأ ليتخلي له أحد نواب حزبه، مرة أخري عن دائرته الإنتخابية ليتمكن من دخول الجمعية التأسيسية، والتي لم يتح له أن يدخلها وهو فائز في إنتخابات عامة!!
(10) وقامت "مايو".. وأحس الصادق أنها قد أزالت أمامه الكثير من المعوقات، فلم يعد هناك الإمام الهادي، ولا إسماعيل الأزهري، ولا محمد أحمد محجوب، ولا نفوذ طائفة الختمية!! فعادت أعراض ولوعه بالسلطة الي الظهور مرة أخري، وبصورة أكثر شراسة وجنونا، فكون "الجبهة الوطنية" لتكون جبهة معارضة لنظام "مايو"، وأخذ هو من الخارج يدبر سلسلة المؤامرات المتلاحقة التي كان آخرها الغزو الأجنبي.. وهو معلم بارز في حياة الصادق السياسية يكفي، وحده، للقضاء التام علي مستقبله السياسي في هذه البلاد!!
(11) وجاءت "المصالحة الوطنية" كما أعلنتها ثورة مايو ليعود الصادق الي البلاد بعد إعلان "العفو الشامل"..

و اليوم!!


نحب أن نؤكد، كما قد أكدنا مرارا عديدة، إننا مع "المصالحة الوطنية"!! بل اننا نري أنه يجب الا يكون هناك تردد فيها، أو نكوص عنها!! كما أننا مع "العفو".. إذ أن "العفو" فوق "العدل".. ولكننا نري، مما قد رصدنا في هذه الخاتمة من التاريخ السياسي للصادق، إن الصادق شديد الولوع بالسلطة.. وهو قد جاء ليحكم!! فلا يمكن أن يفكر الصادق، ولو للحظة واحدة، في أن يختار لنفسه إتجاها في الحياة غير السلطة. وهو قد جاء ليلتقط أنفاسه، ويلم شمله، ثم يتحين الفرصة ليقفز لي السلطة! ولذلك دعونا الي الحذر!! ودعونا، فوق ذلك، الي "المنابر الحرة" وذلك بحيث تلتقي كل التكتلات الطائفية والعقائدية، في البلاد، بما فيها الشيوعيون، حول ميثاق للمصالحة الوطنية تباشر وفقه، هذه التكتلات، كتنظيمات فكرية، إدارة الحوار حول مذهبياتها الفكرية التي تطرحها.. حتي تتم، بذلك، التوعية السياسية والدينية الشاملة لهذا الشعب، وحتي يعرف الشعب حقيقة ما تنطوي عليه الشخصيات التي تدعي أو يدعي لها أتباعها أنه لا خلاص للشعب إلا علي يديها، كشخصية الصادق المهدي.. إن الشعب الواعي دينيا وسياسيا هو الذي يملك أن يقرر مصيره بنفسه.. فإذا شمل هذا الشعب الوعي السياسي والديني، عن طريق هذه المنابر العامة، فقد صار مؤهلا فكريا، ليختار المذهبية الصالحة التي توحده، فتجيء الوحدة الوطنية علي الأساس الفكري، القوي، الذي يصمد أمام تيار الدس، والكيد، والتآمر..
إن التحقيق الصحفي الذي أجرته صحيفة "القبس" مع الصادق المهدي إنما يشير الي أن الصادق المهدي صاحب "برنامج" جاهز للحكم.. وهو أيضا صاحب "مذهبية" في الحكم، أودعها كتبه الأربعة: الصحوة، والدعوة، والقوت، والرئاسة.. فلتقم المنابر العامة للحوار الفكري، وليطرح الصادق "مذهبيته" و"برنامجه"، في السياسة، والإقتصاد، والإجتماع، وليجر الحوار الفكري الموضوعي حول "مذهبيته"، و"برنامجه"، وسوف تحدد "المنابر الحرة" مصير الصادق المهدي تماما!!
و الخطر الماثل هو أن يظل الصادق في إنتظار فرصة الحكم، بإدعائه أنه "القيادة الملهمة"، وان يظل شعبنا مجمد الوعي السياسي والديني، كرصيد جاهز للطائفية الجديدة! والصادق المهدي قد وجد، فعلا، نقطة الإنطلاق للعودة الي السلطة!! وهي الدعوة الي "تحكيم" الشريعة الإسلامية!! وتجيء لجنة تعديل القوانين لتتمشي مع مع أحكام الشريعة الإسلامية لتمثل رأس الرمح في زحف الصادق المخطط نحو السلطة!! أليس هو زعيم أكبر طائفة دينية ذات وزن سياسي، من الناحية العددية؟؟ ومن ثم أليس هو أولي الناس بتولي الحكم عند "تحكيم الشريعة الإسلامية"؟؟
إن خطر الصادق كمجدد للطائفية، يسعي ليمد لها في عمرها، بكل سبيل، إنما هو خطر ماثل!! ولا سبيل الي درئه الا (المنابر الحرة)!!
إن الله تعالي غيور علي هذا الشعب، بما حفظ عليه من الفطرة السليمة.. وهو لا بد كالأه بعنايته.. هذه عادته.. وهو لها واصل.. له الحمد، كل الحمد..

الأخوان الجمهوريون
أم درمان ص. ب 1151- ت 56912
الطبعة الأولي/ السبت 12/11/1977
الطبعة الرابعة/ السبت 3/12/1977
الموافق 23 ذو الحجة 1397 هـ