الأنصار والحزب الواحد
الصادق لم يعد اليوم يتحدث عن الديمقراطية ذات الأحزاب المتعددة، والتى ظلت، الى وقت، هى النغمة التى يعزف عليه فى معارضته للنظام القائم- وهذا شانه دائما – فالامر الثابت الوحيد عنده، هو احقية (القيادة الملهمة) فى السلطة... اما الاساليب، والوسائل، فهى تتغير حسب مقتضيات الظروف... ففى لقاء جريدة (القبس) الذي اشرنا اليه انفا يقول الصادق: (اما الان فموضوع عدم الرغبة فى التفرق للحزبي والحرص على ايجاد وعاء قومى ديمقراطى لتوجيه الإدارة السياسية هو محل إتفاق كل الاطراف).. والتصريح الذى نشرته الصحافة السودانية عقب عودة الصادق للبلاد، بعد المصالحة الوطنية، يؤكد هذا المعنى.. والسؤال الذى يطرح نفسه الان: ما هو الحزب الواحد الذى يؤمن به الصادق، او ما أسماه الوعاء القومى الديمقراطى؟؟ وهل هو الاتحاد الاشتراكى، أم هل هو الأنصار؟؟
إن الامر الطبيعى، بل والبديهى، أن الصادق، إنما يعتمد أساسا على ولاء اتباعه من طائفة الانصار الذين تتوقف عليهم زعامته، ووزنه السياسى.. وهو عندما يتحدث عن بقاء المهدية، إنما يتحدث عن بقائها فى نفوس هؤلاء الأتباع.. وإذا كان الاتجاه هو لبعث المهدية فالانصار هم اولى الناس ببعثها، واكثرهم استعدادا لهذا البعث.. ولايمكن أن يتم البعث على أيدى آخرين، وأصحاب الحق المؤمنون به، والذين ضحوا فى سبيله بدمائهم، ولايزالون على إستعداد للتضحية، موجودون..
وإنه لمن الواضح، من اقوال الصادق، أنه يركز على الأنصار، ويشيد بخصائصهم خصوصا الروح الفدائية التى أشرنا اليها، والتى لايفتأ يرددها، والتى يعتمد عليها فى تحقيق طموحه.. وفى هذا المعنى يقول الصادق فى كتابه (يسألونك عن المهدية) صفحة 249 عما بقى من المهدية: (وبقى منها حماس دينى فريد وتعلق بإتحاد المسلمين، وإحياء الدين فى سلوك الفرد والجماعة وبقى منها فى نفوسهم حب فدائى للوطن الذى سالت دماؤهم فى كل رقعة من بقاعه وبقى منه إستعداد متلهف لمواصلة رسالة البعث الأسلامى بلسان الزمان ووفق ظروفه).. هذه هى خصائص الأنصار التى بقيت من المهدية، وهى نفسها التى ترشحهم لبعث المهدية من جديد.. والعبارات التى تهمنا بصورة أكبر هى: (وبقى منها إستعداد متلهف لمواصلة رسالة البعث الإسلامى بلسان الزمان ووفق ظروفه).. فهى التى تحدد موقع الأنصار فى البعث المنتظر والذى هم فى تلهف له..
ومن الواضح أن الصادق إنما يركز على روح التضحية والفداء عند الأنصار، لأنها الشرط الأساسى الذى يحتاجه قائد كالصادق لتحقيق أغراضه.. تلك الأغراض التى لم تكن، فى يوم من الايام، شيئا سوى فرض زعامته.. فالطائفية دائما لا تعامل الناس إلا كوسائل لها، تضحى بحياتهم فى سبيل أغراض زعمائها، وهى كعادتها فى التضليل باسم الدين، تلبس هذه التضحية لبوس الدين فتسميها جهادا، وإستشهادا فى سبيل الله، ينتظر اصحابه النعيم المقيم.. وزعماء الطائفية يحبون هذا الجهاد والأستشهاد لاتباعهم، ولكنهم لايحبونه لانفسهم!! ولذلك فهم لايشاركون فيه..
وعن روح التضحية، والفداء، عند الانصار فى القرن الحاضر، وفى التاريخ المعاصر، يقول الصادق، فى صفحة 230: (وفى بداية القرن الحالى لفتت تلك الروح الأنظار فى حركة عبد القادر ود حبوبة 1908 وفى التاريخ المعاصر لمس الجميع وجودها فى أحداث مارس 1954 وفى حوادث المولد 1961، وفيما وقع من أحداث فى الجزيرة أبا وفى شوارع ود نوباوى فى مارس 1970 وفى تلك الاحداث هجمت عليهم مباغتة ودون إنزار قوات تفوقهم سلاحا وتدريبا وعتادا فصمدوا وصبروا ونالت منهم الشهادة والجراح والسجون ما نالت).. وهذا الحديث قد ورد فى الكتاب تحت عنوان "الأثر الإنسانى العام للمهدية" والصادق لا يتورع عن محاولة تزييف التاريخ المعاصر فيقول عن هذه الأحداث إن الأنصار قد بوغتوا فيها.. وهى محاولة للتزييف ولاتجوز على أحد، فالأحداث أحداث ماثلة، عاشها الناس، والكل يعلم أن الأنصار هم الذين دبروها.. ولو أن كتاب الصادق صدر بعد 2 يوليو 1976 لكان من الجائز أن يضيف الغزو الأجنبى لسلسلة الأحداث التى ذكرها، مضيفا بذلك أثرا من الآثار الإنسانية الباقية للمهدية..
وهكذا، وبكل بساطة، يضيف الصادق جميع القتلى من الأنصار فى هذه الأحداث بأنهم شهداء. فلكأنما الإستشهاد عنده بالنسبة للانصار حق طبيعى، يناله من قتل منهم دون قيد أو شرط.. فليس من المهم نيته التى كان ينطوى عليها، وليس من المهم معرفة القضية التى كان يقاتل من أجلها، بل ليس من المهم حتى معرفة الطرف الآخر الذى كان يقاتله، هل هو من المسلمين أم هو من غير المسلمين!! والا فالصادق قد كان يعلم، على الأقل، أن الأنصار، فى أحداث أول مارس 1954، وأحداث المولد، والجزيرة أبا، وودنوباوى، كانوا يقاتلون مسلمين، وبسبب خلافات سياسية ضيقة ترجع فى جملتها، الى سبب واحد أساسى هو الصراع حول السلطة!!.. ثم لقد قتل الأنصار في تلك الأحداث عددا كبيرا من الأبرياء، الذين لا صلة لهم بالصراع الدائر.. فأحداث أول مارس، مثلا من المعلوم أن السبب الذي أدي الي قيامها هو الخلاف بين حزب الأمة والإتحاديين حول زيارة محمد نجيب للسودان. وقد دبر الأنصار تلك الأحداث لإشعال فتنة تؤدي الي الحيلولة دون زيارة نجيب للسودان، أو علي الأقل، الي أشعاره بوجود معارضة في البلاد ترفض الإتحاد مع مصر، فقاموا بتقتيل المواطنين حول القصر الجمهوري (سراي الحاكم العام قديما) وفي الشوارع، دون تمييز حتي لقد قتلوا ميرغني عثمان صالح، وهو من حزب الأمة!! قتلوه لمجرد أنه كان يلبس الطربوش المصري.. وقتلوا حكمدار البوليس مصطفي المهدي ويظن أنه من حزب الأمة.. قتلوه لأنه كان يرتدي الملابس الرسمية.. وقد كان القتل والجرح مستفيضا ولقد جاء الخبر في جريدة الرأي العام عدد 2/3/1954 علي النحو الآتي:- (22 قتيلا بينهم قمندان وحكمدار البوليس)
(تمخضت المجزرة الدامية عن 22 قتيلا و217 جريحا وقد وزع الجرحي علي المستشفيات فأرسل 33 منهم الي مستشفي أمدرمان وأرسل جرحي البوليس الي مستشفي النهر وقد بلغ عددهم تسعين جريحا منهم ثلاثون بإصابات بالغة وستون بإصابات طفيفة وأرسل إثنا عشر جريحا الي المستشفي الإنجليزي وأودع مستشفي الخرطوم سبعة وعشرون جريحا من أفراد الجمهور وجميعهم أصيبوا إصابات بالغة تحتاج الي إجراء عمليات جراحية).. هذا ما نشرته جريدة (الرأي العام) يومها عن حوادث مارس 1954 وكان من ضمن من قتل من المدنيين الشاب أبو القاسم ميرغني الذي تخرج قبل إسبوع من مدرسة الحقوق بكلية الخرطوم الجامعية، هكذا روت (الرأي العام) وقد ورد في وصف الجريدة لبعض المشهد تحت عنوان: (طبول الحرب) قولها: (و قد كانت بعض تلك الحشود تحمل طبولا تقرعها قرعات تحمل الي السامع صدي إعلان الحرب، وتهتف هتافات غير مفهومة أحيانا فسرها الراسخون في العلم بأنها صيحات الشر والحرب) إنتهي.. (الرأي العام) عدد يوم 2/3/1954.. فليفكر الصادق مرتين وليفكر غيره من الأنصار مرتين!! هل في هذا جهاد في سبيل الله تتم به الشهادة للمقتول؟؟ (ما لكم كيف تحكمون؟؟).. ولماذا تضللون عباد الله بإسم الله وبأسم الدين مثل هذا التضليل؟؟
و لقد أدي عملهم في هذه الأحداث الي أبشع صور الفتن الدموية، في تاريخنا المعاصر.. ولقد كان من الممكن أن تؤدي فعلتهم تلك حول القصر الجمهوري الي أزمة دستورية يكون من حق الحاكم العام البريطاني، حسب إتفاقية القاهرة، أن يعلن الأحكام العرفية، وأن يوقف كل تطوارات البلاد الدستورية نحو الإستقلال، لولا أن لطف الله قد أوقف تلك الفتنة فلم تنتشر وإنما أخمدت في مهدها..
نحن كثيرا ما نتحدث عن إستغلال الطائفية للدين في تضليل الأتباع من المواطنين، وهذا الصادق المهدي يعطينا مثلا بليغا لهذا التضليل.. هو يتحدث عن الأنصار، وعن الشهادة، فلكأن الأنصاري يمكنه أن يقتل من يقتل من أخوانه في الدين والوطن، ثم هو يعتبر مجاهدا إن قاتل، وشهيدا إن قتل.. فالصادق يعتبره مجاهدا في سبيل الله.. هذا مع أن الدين يقرر أن (كل المسلم علي المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه، وأن يظن به ظن السؤ..) والمسلم هنا هو من قال (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله).. ولو لم يكن صادقا - ولو كان منافقا - فإنه قد روي أن أحد الأصحاب قال: (يا رسول الله!! أرأيت لو أن مشركا قاتلني، فضرب يدي، فقطعها ثم لاذ بشجرة وقال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله) أأقتله؟؟ قال لا!! قال: ولكنه إنما قالها ليحمي نفسه مني!! فقال لا تقتله!! فإنك إن تقتله تكن في مكانه قبل أن يقولها، ويكن في مكانك قبل أن تقتله)..
و أما الشهادة فإنما هي لمن قتل في سبيل الله.. هي لمن قاتل (لتكون كلمة الله هي العليا) فقتل علي ذلك.. فأمر الشهادة في الدين إذن في غاية الدقة.. هناك حديث عن أبي موسي قال: (جاء رجل إلي النبي فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليري مكانه!! فمن في سبيل الله؟؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله..) فأنظروا كيف تضلل الطائفية أتباعها، وتحضهم علي قتل إخوانهم المسلمين، ثم توهمهم أنهم شهداء حين يموتون، ومجاهدون، في سبيل الله، حين يقاتلون!! وقد يبدو أن هذا التضليل، بإسم الدين، في هذا المستوي، هو المفتاح الذي عناه الصادق حين قال: (الإنسان إذا عرفنا مفتاحه قادر دائما علي تجاوز قدراته المحدودة والتحليق فوق سمائه)..
إن غرض الصادق من تمجيد عمل الأنصار في حوادث مارس وحوادث الجزيرة أبا وودنوباوي وتضليلهم عن حقيقة هذه الأفعال البشعة معروف، فهو إنما يريد المزيد من التضليل للأنصار بإسم الدين، حتي يقوموا بالمزيد من التضحيات في سبيل أغراض الطائفة وأغراض زعمائها!! وهم بطبيعة تربيتهم الطويلة علي هذا النحو المضلل لعلي أتم إستعداد للقيام بهذا العمل.. وهذا مما يجعل الصادق يعول، كل التعويل، علي الأنصار.. ثم أن الأمر معهم، في نظره، لا يحتاج الي توعية، وتدريب، وتثقيف، في مجالات السياسة، والإدارة، والقيادة، وإنما يحتاج فقط أن تربط الهمم بقيادة (مخلصة) ودعوة (خالصة).. وعنده أن المهدية قد دللت علي ذلك، وهذه هي العبرة الثانية التي دللت عليها، فلنستمع الي الصادق يتحدث عن هذا الأمر في صفحة 231 فيقول: (و العبرة الثانية هي دلالتها علي عبقرية الرجل العادي.. لقد أظهرت الدعوة القيمة المخبوءة في عراة الأجساد جياع الأكباد، الذين لا حظ لهم من جاه ولا مال ولا ثقافة.. لقد آمن هؤلاء الرجال العاديون بالدعوة فأشتغلوا بنورها وصار منهم القائد، والإداري والسياسي، أيدوا الدعوة وشيدوا الدولة. لقد أثبتت أن الأنسان العادي، إذا خوطبت أفكاره ومشاعره وربطت همته بقيادة مخلصة ودعوة خالصة صارت قوة تلين الحديد وتدني البعيد.. الإنسان إذا عرفنا مفتاحه قادر دائما علي تجاوز قدراته المحدودة والتحليق فوق سمائه).. وعلي ذلك فإن (المهدية الجديدة) لا تحتاج إلا أن ترتبط الهمم بالقائد المخلص والدعوة الخالصة لتظهر عبقرية الرجل العادي وتبرز القيمة المخبوءة في عراة الأجساد جياع الأكباد.. إلخ.. ولتبرز من هؤلاء القيادات السياسية والعسكرية والإدارية.. فالمهدية قد (أبانت وسيلة البعث الإسلامي في زمانها وفي الزمان اللاحق) كما يقول الصادق.. والرجل العادي المعني هنا هو بالطبع الفرد من طائفة الأنصار، والذي ظلت دعوة المهدية تعتمل في صدره، ولم تمت الي اليوم..
و روح التضحية والفداء عند الأنصار ـ في إعتبار الصادق، ليست في ميدان القتال فقط، وإنما هي أيضا في المجال المدني فهو يقول في صفحة 231 (و حتي في النشاط المدني العادي ظهرت تلك الروح في إنضباط خارق وأداء متفوق في أوساط الأنصار في أعمال الفلاحة والصناعة)..
و علي ذلك فإن كل ما يحتاجه القائد موجود، وبصورة كافية عند الأتباع من الأنصار، فهم لا يحوجونه الي غيرهم سواء في ميدان الحرب أو السلم..
و الآن، نعيد السؤال الذي طرحناه في بداية هذا الباب: هل الحزب الواحد، أو الوعاء القومي الديمقراطي، الذي يريده الصادق، والذي يحقق أغراضه، هل هو شييء غير تنظيم الأنصار؟؟ إن الإجابة اليقينية الواضحة، والتي لا تحتمل أي شك، إن الصادق لا يري أي تنظيم آخر صالح لتحقيق أغراضه، في الطموح السياسي، وما يستتر به من دعوة البعث الجديد للمهدية سوي تنظيم الأنصار.. وهذا بالطبع لا يعني أن الصادق حتما يمانع في دخول الأنصار في الإتحاد الإشتراكي، أو أي تنظيم آخر، (كتكتيك مرحلي).. فهم، بما لهم من عددية، وتنظيم، وإرتباط طائفي، يستطيعون أن يستولوا علي التنظيم الذي يدخلون فيه.. ولهذا السبب يقول الصادق في المقابلة الصحفية التي أجرتها معه صحيفة (القبس) الكويتية: (.. لذلك نستطيع القول أن دور الأنصار كان مرنا. واليوم يعرف عنهم الجميع أن لديهم تركيبا وجدانيا فدائيا وتركيبا إجتماعيا صالحا للمشاركة في حركة البناء الإشتراكي للبلاد والبناء الديمقراطي للمنظمات السياسية، علي أن يستمد هذا كله من أصول الإسلام..).. وبالطبع فإن أصول الإسلام التي يعنيها الصادق إنما هي ما يفهمه هو عن الأصول، وما عبر عنه بالحديث عن البعث الإسلامي الجديد، أو بعث المهدية، حسب مقتضيات الوقت، والظروف.. وهذا ما يجعل الأنصار أولي بهذا الأمر من غيرهم.. وهم، عندما يدخلون في أي تنظيم، لا يمكن أن يدخلوا ليذوبوا فيه، ويتخلوا عن رسالتهم في بعث المهدية!! وإنما هم يدخلونه ليستولوا علي التنظيم، ويوجهوه لتحقيق أغراضهم، وهذا أمر لا يحتاج إلي كبير عناء..