والمثقفون.. ما بالهم!؟
وإن كان المشائخ، بحكم ثقافتهم الأثرية، يجهلون حقائق العصر، وحقائق الدين، ولا يعرفون التغيير الجذري في طاقة الانسان المعاصر، وفي حاجاته، فينقلون إليه تفسيرات الماضين واجتهاداتهم التي كانت لمجتمعاتهم، التي هي دون هذا المجتمع الكوكبي بما لا يقاس. فإن كان هذا هو موقف المشائخ فما بال المثقفين وهم يعرفون عن حقائق العصر وعن مطالب الانسان المعاصر؟ فإن كانوا قد ابتعدوا عن ساحات الدين، وأخلوها للمشائخ، فعليهم أن يتذكروا أن الدين متأصل في كيان شعوبنا، وعليه يتوقف مستقبلنا، ولذلك لا بد من كسر حلقة الاحتكار لتدخل القوى المستنيرة إلى ساحات الدين الرحبة. وقبل ذلك، فإن مسئولية الثقافة، والاخلاص لمصلحة الانسان، تكلف المثقفين بموقف إيجابي إزاء "ظاهرة رجال الدين" هذه.. وإن كان بُعد المثقفين من الدين قد حرمهم من شرف تخليص الدين من تلك القوى الرجعية، ووضعه في مكانه الصحيح في خدمة الانسان، فأقل ما يمكن أن يساهموا به هو أن يلتزموا مبادئ الثقافة العامة في حرية الكلمة، وحق التعبير، واحترام الرأي المخالف. ولكنَّا وجدنا عجباً لم نكن نتوقعه في مصر! وجدنا بعض كبار المثقفين ممن بيدهم مؤسسات الصحف يتنصلون من مسئولية الثقافة وأمانتها! ويتنكرون لحرية التعبير! ويتراجعون إلى كل هذا المدى خوف إرهاب المشايخ! وفي مصر يقولون أن الرقيب قد خرج من دور الصحف منذ حركة مايو سنة 1971!! ولكنا وجدنا في كبريات الصحف المصرية رقيباً آخر يعمل له المسئولون عن الصحف ألف حساب! وهم عند نشر أي مقال يتعلق بالدين لا ينظرون إلى محتواه، ولا ينطلقون من مسئوليتهم في التوعية، وإنما يفكرون في المشايخ، وكيف سيكون رأيهم فيما يُنشر!! كل هذه حقائق فوجئنا بها في معركة الفكر الجمهوري بالصحف المصرية.. وإليكم نموذجاً من الوقائع:
كانت جريد الأهرام قد نشرت عنا مقالاً بتاريخ 16/4/76، ولم يناقشنا كاتب المقال، ولم يدعُ "العلماء" لمناقشتنا، وإنما وجَّه إلينا أسوأ الاتهامات. واستنفر الأزهر ليرهبنا. ولم يخجل من هذا الصنيع المتخلف، ولم تخجل الجريدة من نشر هذا الاستنفار الأجوف، فهل أصبح الارهاب الديني مبرراً ومقبولاً للمستوى الذي نصمت عليه، بل نغريه بالآخرين ليمارس عمله في تكفير العباد؟!
وعززت الأهرام هجومها الأول بمقال آخر يقول كاتبه أنه قرأ لنا خمسة وعشرين كتاباً، ولكنه، ليسوغ لنفسه الكذب، زعم أنه "سمعنا" نقول برفع الصلاة عمن انتهى عن الفحشاء والمنكر! وكالعادة، ختم مقالته باستنفار الأزهر لحربنا، ونشرت الصحيفة ذلك المقال والاستنفار. وحين حمل وفد الأخوان الجمهوريين ردنا على المقالين امتنعت صحيفة الأهرام عن النشر خوفا من إرهاب المشايخ، فذكَّرهم وفدنا بحقنا في النشر، وبمسئولية من يحتلون مثل هذه المواقع بإزاء حرية الفكر، وبالعرف الصحفي المرعي، وبأن الحجر على الأفكار ليس صحيحاً، ولا هو ممكن.. فتخلوا عن كل مسئولية، وعن عرف صحيفتهم نفسها خوفاً من ارهاب المشايخ.. كان هذا هو رأي كبار المسئولين في هذه المؤسسة، بل إن أكبرهم قد قال: "وإن شيخ الأزهر لم يكن راضياً عن صفحتنا الدينية"!! وكان يرى أن هذا يعتبر عذراً يعفيه من واجبه في تصحيح الآراء التي شوهها في صحيفته. والغريب أن ظاهرة الارهاب الديني هذه متفشية في كل دور الصحف.. ولكن المجلات اليسارية أقل استجابةً لها مما سواها.. ولا ندري، هل القوى السلفية في مصر ذات نفوذ، وضراوة جعلتها مخيفة ومرعبة لهذا الحد؟! أم أن قيم الحرية وكرامة الفكر هانت وأصبحت أرخص من أن نتعرض في سبيلها لغضب المشايخ؟! والقوى السلفية في رقابتها المزعومة تصمت عن الملاحق العارية، وعن المجلات، والكتب، والأفلام العجيبة ولكنها تحظر شيئاً واحداً هو الحوار الفكري الموضوعي الذي سيبرئ الإسلام من تخلفها.
وإذا كانت الصحف تنشر بين الناس الكلمة المكتوبة، وعلى ثقة القراء تقوم دور الصحف وتتمول من حر مالهم، فإن شرف الكلمة المكتوبة، ومسئولية الكلمة، ومسئولية الصحف بإزاء القراء.. كل هذه تلزم الصحفيين بتقديم الحقائق، والتزام الحق، والتزام مصلحة الشعب.. ومصلحة الشعوب عامة، ومصلحة الشعب المصري خاصة، وفي هذه الفترة الحرجة التي يمر بها، تقتضي نشر حقائق الدين، وحقائق العصر، حتى يتخلص الشعب من جبروت "رجال الدين"، ومن قهرهم ومن تضليلهم. ولكن في مثل هذا الوقت الدقيق فإن جريدة الأخبار القاهرية قد كانت هي الأخرى مثالاً للتنصل عن مسئولية الثقافة، وعن واجب التوعية، فانحازت للمألوف وللقديم وتهربت من أن تفسح المجال للجديد.. وقبلاً كان معارضو الجديد يرفضونه بحجة ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون))
ونحن لم نكلف جريدة الأخبار شرف عرض أفكارنا، ابتداءً، ثم إدارة الحوار الموضوعي حولها، وإنم هي التي تعرضت إلينا على صفحاتها، واتهمتنا بالبهائية، وبالشيوعية، وبالخروج على الإسلام! ولمَّا رددنا على تلك التهم بترت من ردنا القضايا الأساسية التي يدور حولها الجدل، والاتهام، ولم تكتف بذلك!! ونشرت عنا أكاذيب، واتهامات تدور حول نفس المواضيع التي بترتها! ووالت النشر المشوه عنا، فنشرت مقالاً للدكتور مصطفى كمال وصفي يقوم على أن محكمة الردة التي قامت عام 1968 قد أصبح حكمها نهائياً!! وكنا نظن أن إنسان القرن العشرين، مهما كان مستواه من الذكاء، يمكن أن يدرك أن الأفكار لا يمكن الحكم عليها بالمحاكم، وأن زمن محاكم التفتيش قد ولَّى إلى غير رجعة!!
ولكن المشايخ لأنهم يعيشون خارج العصر، فإن الدكتور الشيخ لا يزال يحفل بتلك المحكمة. ونحب أن نطمئن الشيخ بأننا، وكما يعلم القارئ السوداني، قد تعمدنا عدم المثول أمام تلك المحكمة لنريها عملياً عدم اختصاصها وهوانها.. وقد رفضنا استئناف حكمها الوهيم لأننا لم نكن نرغب في تصحيح هذا الحكم المزعوم، لأننا نريد استثماره في التوعية الدينية، كوثيقة نادرة تعبر عن جهل وتخلف رجال الدين بصورة هي أبلغ من أي تعبير من جانبنا، وقدَّمناها نموذجاً لما ينتظر الأحرار، والعقلاء، لو آلت أمور التشريع، والتنفيذ، ومصائر الناس لأمثال أولئك الأدعياء.. فمذمتهم لنا هي الشهادة لنا، وحكمهم علينا تزكية لنا بأننا لسنا من شاكلتهم. وهذا التمييز يهمنا ويشرِّفنا. ثم نشرت جريدة الأخبار مقالاً آخر للشيخ الدكتور الأمين داؤد.. وهذا الشيخ أخذ يزايد المشايخ المصريين بأنهم هم أيضاً، هنا في السودان، قد حاولوا إرهاب الفكر الجمهوري وكبته.. وهذا يعني أن السودان بخير وفيه مشايخ يحسنون مهنة التكفير كالمشايخ المصريين!!! فهؤلاء المشايخ لا يخجلون من التباهي بمثل هذه الترهات.. وجريدة الأخبار حفلت بهذه المستويات فنشرتها.. ولو كنا نحترم ديننا، ونعرف حقائق العصر، لأخفينا مثل هذا الهوس لنستر حال علماء الإسلام، حتى يفيقوا من نومهم الطويل عما قريب. وكيف جاز لجريدة الأخبار أن تنشر هجوماً على آرائنا التي لم توضحها، ولم تنشرها، وهي معروضة في مقالات أودعت لديها للنشر. ولكنها، بدل أن تنشرها، أعطت الفرصة لخصومنا من سدنة القديم ليكذبوا، ويبتروا ويشوهوا. فأصبحوا في غفلة من الزمن هم الخصم، والحكم..
وما رأي المثقفين المصريين، وموقفهم من سمعتهم، ومن حريتهم التي اتضح أنها تهدد بأسوأ أنواع الارهاب.. الارهاب الديني الذي يسخر قداسة الدين لوصم الأحرار والمفكرين، وإسكات صوتهم؟ وهل يستحق لقب وشرف الثقافة من تنقصه الشجاعة فيجبن عن قول كلمة الحق؟!
والصحافة السودانية:
ونحن، حين ننعي على الصحافة المصرية ذلك المستوى الذي تكشفت عنه، لا ننسى سلبية الصحافة السودانية، وتفريطها في دورها في التوعية.. وهي في وضع يقرب منها الحقائق، وفي ظل نظام حدد موقفه من الطائفية عدوة شعبنا.. ولكن هذه الصحف قد قصَّرت عن واجبها في كشف الفكر الطائفي، والفكر السلفي.. وعن دورها في قضية الفكر في هذا البلد.. والفكر الجمهوري فكر أصيل، وقد يكون مشرفاً لهذا البلد، وهو يتعرض لحملة هجوم وتشويه من الصحف المصرية التي لا تعطيه فرصة الرد والتوضيح.. أليس من واجب صحافتنا إعطاء هذا الفكر فرصة التعبير؟!
وإنَّا حين نعتب على إخواننا المصريين، وإخواننا السودانيين، ونستنهض المثقفين إلى واجبهم، لا نفعل ذلك ونحن متضررون من شيء، فنحن موقنون أن الحق ليس له أعداء، وأن من يعادونه يعملون لنصرته، من حيث لا يشعرون، وأن دعوتنا لا يمكن أن يتحمل مسئوليتها كاملة، إلا من اقتنع بها، ولكنا عاتبنا هؤلاء وأولئك لئلا يفوتهم شرف نصرة الحق.. فالحق منصور، منصور.. فقد أظلنا وقته، والتاريخ الذي يكتب هذه الأيام، من جديد، سيسجل كل موقف.. فنحن نبرهم بشرف الدنيا وعز الآخرة ((واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً)).
ولموقف جريدة الأخبار منا، إذ لم تنشر مقالاتنا التي لديها، وأخذت تعرض الفكرة الجمهورية بأقلام خصوم بعدوا عن الموضوعية وعن الأمانة والصدق، فلم نجد فرصة لمقابلة هذا التشويه الواسع إلا بنشر مقالاتنا التي أرسلت إليها تصحيحاً للتشويه، كاملة في هذا الكتيب الذي بين أيديكم..