إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
تعقيب على ورقة: قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمد طه
خالد الحاج عبد المحمود
الرسالة الاولى:
الدكتور هنا، حسب قوله، يركز على أمرين: التشريع والمؤمنين.. ويقول عن المؤمنين: (ويكمن الإشكال في تعريف طه في لفظ المؤمنين؛ إذ يختلف "الإيمان" عند طه عن "الإسلام" فهو يعتبر أنّ الناس ينطلقون من فهم خاطئ للإيمان والإسلام معتبرًا أنّ الإسلام أرقى مرتبة من الإيمان "فما كلّ مؤمن مسلم ولكن كلّ مسلم مؤمن" ) وهذا قول مبتور وغير دقيق
فتعريف الاسلام والايمان، جاء تحت عنوان مباشر: الاسلام والايمان، من نفس المصدر الذي نقل منه الدكتور وقد جاء فيه: "والناس، اليوم، لا يملكون القدرة على التمييز الدقيق بين الإسلام والإيمان، فهم يعتقدون أن الإيمان أكبر من الإسلام، وقد ورطهم في هذا الخطأ عجزهم عن الشعور بحالة الوقت، ذلك بأن الوقت الذي كان فيه هذا الفهم صحيحاً قد انقضى، وأقبل وقت تطور فيه فهم الدين، وانتقل من مستوى الإيمان، إلى مستوى الإسلام.."، ثم يفصل في الامر فيقول: "الإسلام فكر يرتقي السالك فيه درجات سلم سباعي، أولها الإسلام، وثانيها الإيمان، وثالثها الإحسان، ورابعها علم اليقين، وخامسها علم عين اليقين، وسادسها علم حق اليقين، وسابعها الإسلام من جديد.. ولكنه في هذه الدرجة يختلف عنه في الدرجة الأولية، اختلاف مقدار، فهو في الدرجة الأولية انقياد الظاهر فقط، وهو في الدرجة النهائية انقياد الظاهر والباطن معا.. وهو في الدرجة الأولية قول باللسان، وعمل بالجوارح، ولكنه في الدرجة النهائية انقياد، واستسلام، ورضا بالله في السر والعلانية.. وهو في الدرجة الأولية دون الإيمان، ولكنه في الدرجة النهائية أكبر من الإيمان"، ص (82)..الاسلام الأول دون الايمان، والاسلام الأخير فوق الايمان، هذه هي جلية الأمر.. فقول الدكتور (معتبراً أن الاسلام أرقى مرتبة من الايمان) قول غير صحيح، والصحيح هو أن الاسلام الثاني هو الذي اعلى مرتبة من الايمان، أما الاسلام الأول فهو دون الايمان.. فعبارة (ما كل مؤمن مسلم، ولكن كل مسلم مؤمن) هي عن الاسلام الأخيرـ فما كل مؤمن مسلم الاسلام الأخير، لكن كل مسلم الاسلام الأخير هو مؤمن.. فالاسلام الأخير، يتضمن الايمان، لكن الايمان لا يتضمن الاسلام الأخير، لأنه دونه.. والاسلام الأخير لم يحصله في التاريخ إلا الأنبياء والمرسلين.
يقول الدكتور عن الاستاذ محمود: "فهو ينفي أن يكون الرق وتعدد الزوجات والجهاد مثلاً أصلاً من أصول الاسلام ما دامت الرسالة الأولى قد ذكرتهم"!! وهذا استدلال غريب لم يرد عن الأستاذ محمود.. السبب في ما هو ليس بأصل، ليس هو ذكر الرسالة الأولى له، حتى يقول: (ما دامت الرسالة الأولى قد ذكرتهم)، فالرسالة الأولى في التبليغ ـ تبليغ القرآن ـ تتضمن الأصول والفروع معاً، لكنها في التطبيق في حق الأمة، لا تتضمن إلا الفروع، وما هو متداخل بين الإسلام والإيمان..
يقول الدكتور: "على أنّ الطريف في موقف طه أنّه لم يقف عند هذه الفكرة، ولو فعل ذلك لبقي ضمن الخطّ الإصلاحي - عبده والحدّاد مثلاً - وإنما أقرّ بضرورة تجاوز الرسالة الأولى - رسالة المؤمنين - لتطبيق الرسالة الثانية - رسالة المسلمين"!!.. في هذا النص، واضح جداً أن الدكتور لا يعتبر الأستاذ محمود مجرد مجدد مثل المجددين الذين ذكرهم وهذا على اعتبار أنه داعية لتجاوز الرسالة الأولى والأخذ بالرسالة الثانية!! ولكن الدكتور، في نهاية أمره، تناقض مع نفسه، تناقضاً حاداً، واعتبر الأستاذ محمود مجرد مجدد سلفي!! وقد اوردنا أقواله ونذكّر هنا بواحد من تلك الأقوال، فهو قد قال مثلاً: "إنّ فكر طه، وإن كانت تعوقه حدود عدّة، بقي، وإن أوهم موقفه بالجدّة، في دائرة الفكر السلفي الإصلاحي".
الرسالة الثانية:
منذ البداية اتجه الدكتور اتجاهاً خاطئاً في موضوع الرسالة الثانية، وفي حق القرآن نفسه!! يقول الدكتور: "انطلاقًا من الأسس الفكرية نفسها يؤكد طه أنّه إذا كان القرآن قد بني على لحظتين: لحظة تخصّ المدينة وأخرى تخصّ مكة.".. لم يقل الأستاذ محمود أن: (القرآن قد بني على لحظتين) هذا فهم الدكتور، وهو فهم شديد الخطأ.. القرآن خاطب مستويين: مستوى أمة المؤمنين، وهذا يمثله القرآن المدني، ومستوى أمة المسلمين، ويمثله القرآن المكي.. فالمكي والمدني لا يعبر عنهما بلحظتين.. والمكي والمدني، لم يبن عليهما القرآن، وإنما هو تنزل في خطابه، الى المستوى الذي يناسبهما، والقرآن فوق كليهما.
حول القرآن المكي والمدني، يثير الدكتور قضيتين: الأولى تأتي من قوله: "إنّ اختلاف المخاطبين هو المعيار التصنيفي الذي استند إليه طه ومن قبله القدامى، للتفريق بين ما هو مدني وما هو مكيّ. لكن إلى أي حدّ يمكن الاطمئنان لصحة هذا التصنيف، خاصة والاستثناءات موجودة.." والثانية يمثلها قوله: "وهل يمكن أصلاً الفصل في القرآن بين الآيات المكية والآيات المدنية؟".
نبدأ بالسؤال الثاني.. قول الدكتور: هل يمكن أصلا الفصل في القرآن بين أياته المكية وآياته المدنية!! السؤال سؤال استنكاري يتضمن أن الفصل غير ممكن عند الدكتور!! والفصل واقع لا مجال للخلاف حوله.. لا مجال للقول هل يمكن؟، هو أمكن فعلاً، والقرآن المكي والمدني، ومستوى الخطاب فيهما مختلف بصورة بينة.. أما عن السؤال الأول، الدكتور يقول: "إلى أي حدّ يمكن الاطمئنان لصحة هذا التصنيف خاصة والاستثناءات موجودة؟".. أولاً الدكتور يعلم إن هذا التصنيف ليس خاصاً بالأستاذ محمود وهذا واضح من قوله: "إنّ اختلاف المخاطبين هو المعيار التصنيفي الذي استند إليه طه ومن قبله القدامى".. أما مدى الاطمئنان لصحته، فأمر يعتمد على معرفة الأفراد، وتدينهم، وتقديرهم للدين.. هو عند عامة المسلمين أمر واضح بصورة لا مجال معها لعدم الاطمئنان اليه.. فالاختلاف في مستوى الخطاب ظاهر بصورة يقبلها كل عقل.. فمثلاً قوله تعالى: "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ"، لا يمكن عقلا ان يقال ان الخطاب فيها لا يختلف عن الخطاب في قوله تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ".. وكون ذكر المنافقين ظهر في القرآن المدني، ولم يظهر في القرآن المكي، أمر واضح الدلالة.. فقبل الجهاد بالسيف، لم تكن هنالك حاجة للنفاق.. والأمر أعمق من ذلك بكثير، والأصل فيه المثاني.. القرآن نزل مثاني، يقول تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ...".. مثاني، يعني ذا معنيين، معنى بعيد، ومعنى قريب.. والسبب في ذلك إنه خطاب من الرب في عليائه الى العبد في الأرض، ومن المستحيل أن يكون ما هو عند العبد، هو نفس ما عند الرب.. والمطلوب أن يسير العبد مما عنده الى ما عند ربه.. أما الاستثناءات التي ذكرها الدكتور، فالحديث عنها وارد في نفس الصفحات التي ورد فيها الحديث عن المكي والمدني، فقد جاء قوله: "والشواذ عن الضوابط، بين المكي والمدني، إنما سببها التداخل بين الإيمان والإسلام، فإنه، كما ذكرنا، كل مؤمن مسلم في مرتبة البداية، وليس مسلما في مرتبة النهاية، وكل مسلم مؤمن، ولن ينفك".
كان يمكن أن أحدثك عن الأصول والفروع في مستوى القرآن الخلقي، وارتباط الاثنين بالتوحيد، ولكن لا اريد للموضوع أن يطول أكثر مما طال، ولكن فكّر في قول الأستاذ: "فالعقاب ليس أصلاً في الدين، وإنما هو لازمة مرحلية، تصحب النشأة القاصرة" (الرسالة الثانية 134).. فالثواب أصل، والعذاب فرع.. والخير أصل، والشر فرع.. واللذة أصل، والآلم فرع...الخ.
يتمشى مع موضع المكي والمدني موضوع النسخ.. يقول الدكتور: "غير أن طرافة فكر طه تكمن في قوله بالنسخ"!! لا توجد أي طرافة في القول بالنسخ، فهو قول يقول به جميع المسلمين، فإذا وجد من لا يقول به، فلأنه مفارق!! فالقول بالنسخ هو قول الله تعالى، فهو يقول: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يمكن أن ترجع الى أي كتاب من كتب علوم القرآن، ونرشح لك كتاب (الاتقان في علوم القرآن للسيوطي).. يقول الدكتور: "إنّنا نرى أنّه كما لا يجوز التعامل مع آيات الأحكام في معزل عن سياقها النصي والمرجعي فإنّه أيضًا لا يجوز الفصل بين القرآنين لأنّ قيمة الرسالة تكمن في وحدتها " هذا مجرد قول إنشائي، ما معنى القول بأن قيمة الرسالة تكمن في وحدتها!! قيمة الرسالة تكمن في أن يكون الخطاب فيها في مستوى المخاطبين "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم".. ولا يمكن أن يقال أن مستوى عقل الانسان في مستوى جاهلية القرن السابع، هو نفس مستوى عقل إنسان القرن العشرين، خلِّ عنك مستوى عقل الانسان في العهود السابقة الى عهد آدم عليه السلام.. الوحدة المعتبرة، هي الوحدة التي يقوم داخلها الاختلاف والتنوع.. وهذه هي وحدة الاسلام، التي ترفضها أنت.. ومن المستحيل ديناً وعقلاً أن تكون هنالك شريعة واحدة تصلح لكل البشر، من آدم والى اليوم.
يقول الدكتور: (ينطلق طه دائمًا ليشرّع لكلامه من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وحتى التطوير عنده "ليس قفزًا عبر الفضاء، ولا هو قول بالرأي الفجّ، وإنّما هو انتقال من نص إلى نص.." وهو بذلك لا يختلف عن التيار الأصولي ولا السلفي، فالكلّ متحيّلٌ على النص يُقوّله ما يريد هو قوله).. مَنْ مِنْ السلفين قال بالانتقال من نص إلى نص!؟، وذهب الدكتور ليقول إن تعامل الأستاذ مع النص تعامل ذاتي ولا يورد قرائن نصية ولا معنوية تدعمه!!، هذا أمر من المستحيل أن تجد عليه دليلاً.
واضح جداً، من جميع أقوال الدكتور أن له موقف من الدين، كان ينبغي أن يذكره بكل وضوح، فمن يتحدث عن منطلقات الآخرين عليه أن يبين منطلقه هو.. كيف يمكن أن يكون هنالك داعية اسلامي ولا يعتمد على النصوص؟! هذا مأخذ شاذ وغريب!! دعوة الأستاذ محمود كلها، معبرة عن القرآن، وتقوم على الصلة بالله عن طريق القرآن، فكون الدكتور لا يفهم هذا الأمر، ولا يعيره اهتماما، هذا شأنه! ، وكان عليه أن يناقش القيم والمبادئ المستخرجة من القرآن، لأن هذه وحدها يمكن أن تكون الأرض المشتركة مع من لا يؤمن بالقرآن ولا مرجعيته، وهذا ما لم يفعله الدكتور.. كيف يناقش القضايا الدينية، وليس له فيها قدم، بل إن ثقافته الدينية ضعيفة بصورة مؤسفة.. الأستاذ محمود والسلفيون يشتركون في النصوص، ولا مجال لخلاف ذلك!! ولكن معاني النصوص عندهم مختلفة تماماً، وهذا ما كان ينبغي أن يشغل الدكتور بدل الإساءات والتجريح.. قول الدكتور (الكل متحيل على النص يُقَوِّله ما يريد هو قوله)، قول باطل، ولا وجه له من الصحة، لا في حق السلفيين، ولا حق الأستاذ محمود.. السلفيون يقدمون فهماً معيناً، بحكم هذا الفهم حكم عليهم بأنهم سلفيون، لأن فهمهم يقوم على الرجوع الى السلف، الى الماضي، لكنهم لا يحتالون على النص ولا يقدمون فهما ذاتياً، وقرائن فهم النص عندهم متوفرة، وكذلك الأمر بالنسبة للأستاذ محمود.. الاختلاف بين الأستاذ محمود والسلفيين، هو اساساً اختلاف بين التفسير والتأويل!! وهذا ما لم يدر بخلد الدكتور، ولم يتعرض له.