إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
تعقيب على ورقة: قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمد طه
خالد الحاج عبد المحمود
حدود الرؤية والجديد:
تفضل الدكتور في بداية كتابته، وأنعم على الأستاذ محمود بالتجديد، فقال: "لا شك أن محمود طه يمثل علماً بارزاً في تجديد الفكر الإسلامي".. ولكن في نهاية كتابة الدكتور سحب هبته هذه، وزعم أن الجدة في موقف الأستاذ وهم!! فقال: "إن فكر طه، وإن كانت تعوقه حدود عدة، يبقى، وإن أوهم موقفه بالجدة، في دائرة الفكر السلفي"!!، يبدو أن الدكتور نسي ما قاله في الأول!!
زعم الدكتور في خلاصة نقده، ما نصه "حاولنا فيما تقدم تحليل أفكار طه لتبين المنطلقات الفكرية والأسس المعرفية التي أجترح منها أطروحته، وسنخصص هذا الجزء لنتبين الحدود المعرفية لهذه الرؤية، ونقصد بالحدود المعرفية هنا (سقف الفكر) الذي لا يمكن تجاوزه إما لقصور في البيئة الثقافية، وإما للحدود المعرفية في زمنه، أو الضغوط الاجتماعية والسياسية في عصره، فالفكر يبقى دائماً رهين عوامل معقدة تسمح له بأن ينتج أفكاراً طريفة لكنها أيضاً قد تمنعه من الانفتاح على أطر فكرية أرحب".. هذا النص هو مما يؤكد أن الدكتور خارج الموضوع، فمعاييره هي الثقافة والواقع السياسي والاجتماعي في عصره!! هذا هو مدى علم الدكتور، وواضح فيه التغييب التام لموضوع (العلم بالله)، فهذا ليس للدكتور علاقة به، في الوقت الذي هو مصدر جميع معرفة الأستاذ.. وفي هذا المجال، ليس للمعرفة حدود، إلا عجز الفرد من التحقيق.. وقد أورد الدكتور، بعض النصوص التي تفيد هذا المعنى، ولكن لم يقف عندها، لأنها غريبة عليه، وهو يحتكم إلى غيرها، مثال ذلك قوله: "وإنما كان الإسلام مقراً بالحرية المطلقة لأنه لا يرى في ترقي الفرد حداً يقف عنده، فهو عنده الإسلام سائر من المحدود إلى المطلق".. وقوله: "العبودية عند طه (كالربوبية لا تتناهى ولم يحققها إلا الأنبياء)".. ومع هذه النصوص، قال ما قاله عن الحرية المطلقة في الفلسفة الغربية، وربطها بالجنس، مع أنه هو نفسه أورد قول الأستاذ محمود، أن ثمن الحرية هو حسن التصرف فيها، ومن لم يحسن التصرف تصادر حريته، فيما لم يحسن فيه التصرف.. ومن مفاهيمه الخاطئة التي نسبها للأستاذ محمود، قوله: "فالعبودية تصبح بهذا المعنى إتحاد بالله"، وهذا هو أمر مناقض لأقوال الأستاذ التوحيدية، لأنه يقوم على التعدد، ولأن المحدود من المستحيل أن يتحد مع المطلق!!.
حديث الدكتور في تقويمه للأستاذ محمود، من خلال بيئته الثقافية والاجتماعية في زمنه – هذا المعيار التقليدي.. على الدكتور أن يبحث له عن مكان آخر.. فمجاله هو مجال الأدباء والفنانين والفلاسفة.. ولكن في المعرفة بالله، لا مجال لهذه القيود التي يتحدث عنها، فهي تقوم على الأخذ من الله.. والسير في هذا المجال، هو عمل في تخطي كل الحدود، بما في ذلك الزمان والمكان، خلِّ عنك البيئة، بهذا المعنى المحدود.. واضح جداً أن الدكتور لم يقف على مفهوم البيئة عند الأستاذ محمود، فالبيئة عنده، بيئة روحية ذات مظهر مادي، والتأقلم معها يكون مع مظهرها المادي، وجوهرها الروحي.. هذه البيئة، في جملتها هي إرادة الله تجسدت، والتأقلم معها، إنما يتم عبر هذا التأقلم مع الإرادة الإلهية.. ففهمك أنت للأستاذ – إن وجد – هو المحدود.. سقف الفكر عند الأستاذ محمود هو المطلق.. السير من المحدود إلى المطلق!! والعمل كله في الدين تخلق بأخلاق الله عبر طريق تجويد العبودية لله، وهذا أمر لا سقف له غير المطلق.. فغاية العبد أن يعلم علم الله، ويحيا حياة الله، كل ما هنالك أن السير في هذه المجالات لا إنتهاء له، لأنه سير إلى المطلق.. هذا الأمر، لا علاقة له بحداثة وما بعد حداثة، كما لا علاقة له ببيئتك التي تتحدث عنها، وأنت قلت: "الحداثة التي منحت الفرد الحرية المطلقة"، وأساساً الحرية لا تمنح، وإنما هي تُحقق بالمجهود الفردي، في العمل في السلوك!! وكل هذه المعاني جديدة عليك تماماً، فبدل أن تفهمها في مجالها، ذهبت لتربطها بما تفهم مما لا علاقة له بها!! وحتى دعوة الأستاذ محمود، لا تمثل كل فكره وإنما هي تنزل – خطاب للناس على قدر عقولهم.. والعارف فوق ما يقول، وبكثير جداً!! فإدعاؤك بتحديد فكر الأستاذ محمود، ليس أكثر من إدعاء، يوكد تأكيداً قاطعاً، أنك فشلت حتى عن الإلمام ببعض ما هو مطروح للناس!!.
كون الأستاذ محمود لم يأت بجديد، وإن كان موقفه يوهم بالجدة، فقول ظاهر البطلان، وأنا هنا سأحدد لك بعض القضايا، وأنت مطالب بأن تأتي بأي شبيه لها، عند أي فرد في العالم.
1/ هل يوجد أي فرد من المسلمين، قال بالرسالة الثانية، كما هي عند الأستاذ محمود!؟ هل مفهوم الرسالة الثانية نفسه، ليس بالمفهوم الجديد تماماً!؟
2/ رغم أن مفهوم التطور، مما لفت نظرك، لكن لم تقف عنده، علماً أن مقدمة الطبعة الرابعة للكتاب أشتملت على حديث عن التطور، ذهب إلى أبعاد في البدايات، وفي النهايات، لم يرد عند أي أحد من علماء التطور.. واعتمد الحديث مرجعية التوحيد، وهذا أكثر من غيره، لم يأت به أحد.
3/ أذكر لي واحداً، قال بما قال به الأستاذ محمود، من أن المرحلة الأخيرة للتطور، وهي الغاية الأساسية منه، هي مرحلة الإنسانية.
4/ يقول الأستاذ محمود، في مجال تصور الوحدة، التي يعطيها التوحيد: الكون كله، موجود في كل جزء منه!! ويقول: كل ما كان وما سيكون هو كائن الآن!!.
5/ ويقول أيضاً في مجال الوحدة والتطور: "والحقيقة التي يجب أن نعلمها، لنخرج من هذا الظن الفاسد الذي جلب علينا الخسران، هي أن كل ذرة من ذرات أجسادنا هي مشروع إنسان كامل، ومسئول، له عقل، وله قلب، وله جسد، وهو نموذج مصغر منا" .
6/ ويقول: "من الناس من لا يرى أبعد من أنفه، ومنهم من تنجاب عن بصيرته سحب الظلمات، وحجب الأنوار، فيرى ورود الحياة وصدورها، ويرى سيرها فيما بين ذلك"،.. هذه مجرد نماذج، ولكنها كافية.. ائتني بأي شبيه لها، ليس في الفكر الإسلامي، بل في أي فكر.
كتابة د. باسم المكي هذه، تؤكد ما سبق أن قلته في مقدمة كتاب: (الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية)، وجاء فيه: "وقد ركزنا على أن الحوار الحضاري ينبغي أن يرتفع لمستوى الأصول.. وأي حوار حول الفروع ولا يقوم على الأصول، حوار غير مجدٍ تماماً، ولا معنى لأن يتم.. فعندما يتم الارتفاع إلى الأصول، يتضح تماماً، أن معاني الأشياء، بين الإسلام والحضارة الغربية، تختلف بصورةٍ جذرية.. فعندما نتحدث مثلاً، عن الحرية أو الأخلاق، أو الاقتصاد أو السياسة...إلخ، إذا لم نربط هذه القضايا بالأصول، يصبح الحوار بلا معنى، وفيه كل من الطرفين، عند الحديث عن القضية الواحدة، يتحدث عن شيء يختلف بصورة جذرية عن الطرف الآخر، بحيث يصبح كل منهما يتحدث في وادٍ مختلف تماماً عن الآخر.. العبرة دائماً ليست بالكلمات، وإنما بالمعاني التي تشير إليها الكلمات.. فإذا قلت (حرية) مثلاً، ماذا تعني الكلمة، ومن أين تستمد الكلمة، عندك، معناها؟ أو ما هو الأصل الذي ترجع إليه دلالة الكلمة؟؟".. هذا القول ينطبق على كتابة الدكتور، وبصورة خاصة، حديثه عن الحرية!!، ولكن أهم من الحرية، الحديث عن المطلق!!.
كتابة الدكتور هذه، كافية جداً، للتدليل على بعده البعيد عن الموضوعية.. فهو لا يلتزم حتى بالحد الأدنى منها، وهو "ألا تنسب للآخرين خلاف الذي يقولون، ولا تفسر أقوالهم بخلاف ما يرمون إليه"، والدكتور في جميع كتابته كما رأينا، وفي أوضح الأشياء، وأكثرها أهمية، ينسب للأستاذ خلاف ما يقول، ويفسر بعض أقواله المهمة بما يناقضها تماماً.. وبعد كل ذلك، ينسى الدكتور نفسه، ويتهم الأستاذ بعدم الموضوعية!!، أساساً يا دكتور الموضوعية عندك، وفي أحسن أحوالها، هي دون الموضوعية عند الأستاذ محمود، وبأمد بعيد.. فالموضوعية عند الأستاذ محمود قيمة تكتسب بالرياضة الروحية – وهذا أمر من الواضح أنه ليس لك فيه نصيب – والرياضة الروحية تستهدف أن تحقق عند صاحبها الحياد الفكري، وهذا لا يتم إلا بالتخلص من الهوى، ومن خداع الحواس، وخداع العقول.. هذه بداية الموضوعية!! أما الموضوعية في قمتها فهي تعني أن نرى الأشياء بعين الله!!، من المؤكد أن كل هذا، لا علاقة للدكتور به، ولا يمكن أن يخطر على باله.. وهو حتى عند الذين يطلبونه، لا يتحقق إلا بمداخل علوم اليقين.. يقول الأستاذ عن ما يذيعه من معرفة: "للحق عندي من القداسة، بحيث لا أذيع إلا ما أكون على يقين من أنه حق".
لقد كان الدكتور في عجلة شديدة وهو يطلع على ما اطلع عليه من كتب الفكرة، كما أنه كان في عجلة أشد في نقده الذي رأيناه، ومن أجل ذلك جاءت كتابته بالصورة التي رأينا من المفارقة لأبسط صور الموضوعية، وعدم فهم أوضح الأشياء، ومع هذا هو يزعم أن الأستاذ محمود، كان متعجلاً في نقده للحضارة الغربية!!، والأستاذ محمود بدأ نقده للحضارة الغربية منذ 1945م!!، ولأنه نقد يقوم على أساس التوحيد، قد ظل المبدأ فيه ثابتاً، وكانت الأحداث دائماً تؤكده، وتوضح أبعاده.
وقد نصح الأستاذ في مقدمة كتاب الرسالة الثانية، من يطلع عليه، بالأناة ودقة النظر، فقال: "ولكننا نحب أن ننبه من عسى يحتاج إلى تنبيهنا من القراء إلى أن هذا الكتاب حق، وأن الإطلاع عليه يقتضي الصبر، والأناة، ودقة النظر، فإذا ظفر القاريء بأولئك فأنه سيتفتح ذهنه على فهمٍ جديد، للقرآن وللإسلام، وسيحمد عاقبة صبره، وطول أناته، إن شاء الله".. ولما لم يكن للدكتور الصبر المطلوب لم يسمع هذه النصيحة، بل ولم يسمع سوى صوته الداخلي الذي يستعجله، ليصل إلى النقد قبل معرفة ما ينقده!!.
ومهما كانت مفارقات كتابة الدكتور، فأننا نحمد لها أنها عمل في الحوار.. وإذا توفر الحوار، فإن التصحيح دائماً ممكن.. فنكرر دعوتنا للحوار، ونرجو أن نتعلم جميعاً أدب الحوار، الذي يجعله حواراً مُجدياً .
هذا "وعلى الله قصد السبيل، ومنها جائر، ولو شاء لهداكم أجمعين"
خالد الحاج عبدالمحمود
السودان مدينة رفاعة
5 ديسمبر 2015