إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعقيب على ورقة: قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمد طه

خالد الحاج عبد المحمود


الحضارة الغربية:


موقف الأستاذ محمود من الحضارة الغربية، ينبني على منطلقه الذي لم يهتد اليه الدكتور، وهو التوحيد: فالحضارة الغربية، وكل ما يجري فيها، هو من صنع الله العزيز.. هذا ينطبق على باطلها كما ينطبق على حقها.. فحتى باطلها دخل بارادة الله، والله تعالى له من وراء ارادته حكمة.. فالأستاذ محمود، يعرض كل شيء يريد تقييمه على ميزان التوحيد، ميزان (لا إله إلا الله).. وعن هذا الميزان جاء قوله في كتاب (الماركسية في الميزان)، وهو كتاب، منقول عن محاضرة، ألقيت على السامعين باللهجة السودانية المحلية.. يقول: "ميزاننا ميزان الإسلام: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) هنا يمكنك أن تقول: ميزان (الشريعة الإسلامية).. ويمكنك أن تقول: ميزان: (لا إله إلا الله) بمعنى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك) دا معناه: شريعة الكلمة: (لا إله إلا اله) لأن (لا إله إلا الله) هي التي أوحيت للنبيين جميعا: "خير ما جئت به أنا و النبيون من قبلي (لا إله إلا الله)".. فميزاننا ، إذن ، اليمكن (الذي يمكن أن) نزن بيهو الماركسية هو: (لا إله إلا الله).. هو دقة التوحيد المنتظم الوجود، في أعلاه، وفي أسفله..".. لا مجال في هذا الميزان، عند المحققين الذين يملكونه أشياء مثل عدم الحياد، والذاتية والأوصاف المرذولة التي تفضل بها الدكتور.. وأول ما يقوم عليه الميزان أنه لا يوجد باطل مطلق!! يقول الأستاذ محمود مباشرة بعد النص الذي ذكرناه: "وإنطلاقاً من هذا الميزان يجب أن نصحح مفهوم شائع، هو أن الماركسية ما حقها يتكلم عنها الناس، خصوصاً إذا كانوا دعاة إسلام، ذلك لأن الماركسية رجس من عمل الشيطان، وأنها لا حاجة لنا بها.. أول ما يجب أن يصحح بميزان: (لا إله إلا الله) هو أن ليس هناك باطل مطلق يمكن أن يدخل في الوجود.. كل ما دخل في الوجود إنما دخل بإرادة إلهية.. والإرادة لا يمكن أن تكون باطل مطلق.. وما نراه نحن باطل في الإرادة، إنما هو باطل حكم، باطل شرع، باطل لمصلحة وجهة نظرنا نحن.. لكن، من وجهة نظر الحق، ليس هناك إلا الحق".. ثم ذهب يتحدث عن ماركس وما له وما عليه بعد أن طرح أساسيات الفلسفة.. فمثلاً جاء: (من حسنات ماركس الفكرة التطورية) وهذا عنوان جانبي و(من حسنات ماركس الدراسة الاقتصادية) وهذا عنوان جانبي.. وجاء (من سيئات ماركس ملازمة العنف للقوة)... الخ.
علينا أن نتذكر أن الدكتور، بدأ حديثه عن منطلقات فكر الأستاذ محمود بموضوع: "نقد الرؤية الغربية".. وهذا عكس الأولويات.. ونقد الأستاذ محمود ليس منصباً على الرؤية الغربية، وإنما على الحضارة الغربية، كواقع، ومن خلال الأسس الفكرية التي تقوم عليها.. وفي هذا الاطار، قد تحدث عن الماركسية، وعن الرأسمالية، وعن السياسة...الخ.
والكتب التي اطلع عليها الدكتور ليست عن نقد الحضارة الغربية، وإنما هي عن تقديم الاسلام، ولذلك إذا تعرضت للحضارة الغربية، لا ينتظر منها أن تفصل في الأمر.. ولكن إذا كان الدكتور منصفاً، فإن نصاً واحداً من النصوص التي أوردها كاف جداً.. وهو قد أورد القول للأستاذ محمود: "إن المدنية الغربية الآلية الحاضرة عملة ذات وجهين: وجه حسن مشرق الحسن، ووجه دميم. فأما وجهها الحسن فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلمية، حيث أخذت تطوع القوى المادية لإخصاب الحياة البشرية، وتستخدم الآلة لعون الإنسان.. وأما وجهها الدميم، فهو عجزها عن السعي الرشيد إلى تحقيق السلام، وقد جعلها هذا العجز تعمل للحرب، وتنفق على وسايل الدمار أضعاف ما تعمل للسلام، وأضعاف ما تنفق على مرافق التعمير".. هذا النص الموجز يلخص ايجابيات وسلبيات الحضارة الغربية بصورة وافية جداً.. أما التفاصيل، فمجالها الكتابات التي يتم فيها تناول الحضارة الغربية، مثل كتاب (الماركسية في الميزان) مثلاً.
السلام هو جوهر حاجة الانسانية المعاصرة، وهو كما يعبر الأستاذ، حاجة حياة أو موت.. ويمكن أن يجعل معياراً: فأي فكر يفلسف للحرب، أو يدعو لها، إلا في حالة الدفاع عن النفس، هو فكر ليس للبشرية حاجة اليه، وهو يمكن أن يصرف النظر عنه ابتداء.. فالبشرية ليست في حاجة لمن يعلمها فنون الحرب، وإنما هي في أشد الحاجة لمن يعلمها فنون السلام.
إذا أردت الوقوف على التفاصيل، فيمكنك الاطلاع على كتب تلاميذ الأستاذ محمود، ومنها مثلاً (الإسلام والسلام عند الأستاذ محمود محمد طه)، وهو يقوم على المقارنة بين الاسلام والحضارة الغربية وفلسفاتها في مجال تحقيق السلام.. وكتاب (الاسلام ديمقراطي اشتراكي)، وكتاب (الوجود بين الاسلام والحضارة الغربية)، وكتاب (الانسان بين الاسلام والحضارة الغربية).. وهنالك العديد من الكتب في هذا المجال.. وهي كتب مفصلة بعض الشيء.. فكتاب السلام يقع في أكثر من اربعمائة صفحة، وكذلك كتاب (الاسلام ديمقراطي اشتراكي).
يقول الدكتورأن نقد الأستاذ محمود للغرب اتسم بالاتزان ومحاولة الغوص في خصائص الفكر الغربي فلا أثر في لغته لعبارات التكفير ولا السخط شأن قطب.. أولاً هذه مقارنة جائرة جداً.. ولكن ما السر في الاتزان؟! إنه التحقق بالتوحيد، الذي يرى في كل ما يدخل في الوجود إنما دخل بارادة الله، وفي ارادته حكمة.. فحتى الجانب المظلم من الأشياء له حكمة، وهو في نهاية المطاف لمصلحة الحياة.. فلا مجال، في الدين الحق، للسخط على أي شيء دخل الوجود، إذ السخط في هذه الحالة، يكون سخطاً على إرادة الله.
يقول الدكتور: "كما أنّنا نعتقد أنّ نقد طه للفلسفات الأوروبية جملة يحتاج إلى مراجعة، ذلك أنّ هذه الفلسفات تختلف اختلافًا جوهريًّا في أسسها النظرية ومنطلقاتها المعرفية".. ونقول له مهما اختلفت الفلسفات، فهنالك ما يربطها جميعاً، وهو أنها تقوم على العقل المجرد، ويمكن نقدها من هذا المنطلق.. ثم أن الفلسفات التي تقوم عليها الحضارة الغربية هي المهمة، وهي جميعها تلتقي في أنها مادية.. وبنقد المادية يتم نقدها جميعاً وبيان الأساس الواهي الذي تقوم عليه.

المطلق:


المطلق في دعوة الأستاذ محمود هو الذات الإلهية، وهي المطلق الوحيد.. والاطلاق، اطلاق كمال، واطلاق وجود.. فالمطلق هو الثابت الوجودي الوحيد.. ومن المستحيل أن تصل الفلسفة الى المطلق لأنها بنت العقل، والعقل بالضرورة محدود.. وأكثر من اشتهر في الغرب بالحديث عن المطلق هم الفلاسفة الألمان، وعلى رأسهم هيغل.. ومطلق هيغل لا علاقة له بالاطلاق.. فالاطلاق عنده اطلاق صيرورة.. وقد قمت بمعالجة الموضوع في كتاب (الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية) يمكن الرجوع إليه.
يهمنا من الحديث عن المطلق، قول الدكتور عن الفلسفات الغربية، الذي جاء فيه: "إن الفلسفات قامت على الحداثة التي منحت الفرد الحرية المطلقة في المجال السياسي والاقتصادي وحتى الجنسي".. هذه عبارات تؤكد تاكيداً قاطعا أن الدكتور خارج الموضوع.. ففهمه للحرية المطلقة معكوس تماماً.. حديثه عن إعطاء الفرد الحرية المطلقة في الفلسفات الغربية في مجال الاقتصاد والسياسة، يدل على ضحالة حقيقية في تناول القضية.. ولا حتى الحرية المقيدة، لم تعطها هذه الفلسفات.. كل الموضوع هو خطأ جوهري في إدراك المفاهيم.. واضح جداً أن الدكتور فهم الحرية الفردية المطلقة عند الأستاذ محمود بصورة معكوسة!!
يقول الأستاذ محمود: "وأما الإسلام فهو يرى أن الأصل في الحرية الإطلاق، وأننا حين نتحدث عن الحرية من حيث هي، وفي أي مستوى كانت، إنما نتحدث عن الإطلاق، من حيث لا ندري، ذلك بأن الحرية المقيدة إنما هي نفحة من نفحات الإطلاق تضوعت على أهل الأرض بقدر طاقتهم على احتمالها، فكأن القيد ليس أصلاً، وإنما الأصل الإطلاق، وما القيد إلا لازمة مرحلية تصاحب تطور الحياة من المحدود إلى المطلق".. (الأصل الإطلاق) يعني أن الأصل هو ذات الله، فهي وحدها صاحبة الحرية المطلقة التي لا يحدها قيد، ولا تقيدها حاجة.. فهذا هو أصل الحرية، في جميع صورها، وجميع مستوياتها.. فهي جميعها عبارة عن تجلي الحر المطلق الحرية، على أهل الأرض، في مستوى استعدادهم.. يقول الأستاذ محمود: "وما دمنا في منطقة الأنانية الجاهلة، فأن حريتنا لا بد تقيد، لمصلحة مجتمعنا، ولمصلحتنا نحن أيضاً، ويجب أن يكون القيد وفق قانون دستوري.. ومن هذا يتضح أن الحرية في الإسلام على مستويين: مستوى الحرية المقيدة بقوانين دستورية.. ومستوى الحرية المطلقة".. فالقيد في القانون الدستوري لمصلحة الحرية، ولا يمكن أن تكون إلا به.. فالحرية تقتضي تجاوز الأنانية الجاهلة.. يقول الأستاذ محمود: "الحر في المستوى الأول، هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط أن لا تتعدى ممارسته لحريته في القول، أو العمل على حريات الآخرين".. هذه وحدة الفكر، وهي الخطوة الأولى من خطوات وحدة البنية البشرية.. وتليها المرحلة الثانية "والحر في المستوى الثاني هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون نتيجة ممارسته لكل أولئك إلا خيراً، وبركةً، وبراً، بالناس، وأدنى مراتب الحرية الأولى العدل، وأدنى مراتب الحرية الثانية العفو، وصاحب هذه لا ينطوي ضميره المحجب على ضغن لأحد".. وبالدخول في الحرية الثانية، نبدأ مرحلة وحدة الحياة وهي: وحدة العقل والقلب والجسد!! .
عبارة الدكتور "الحداثة التي منحت الفرد الحرية المطلقة في المجال السياسي والاقتصادي وحتى الجنسي"، دليل حاسم على أن الدكتور قرأ فكر الأستاذ من خارجه!! وما ذلك إلا لأنه لم يهتد للمنطلقات، الأمر الذي يجعله يفهم حديث الأستاذ عن الحرية الفردية المطلقة، بعكس المقصود!! تفكير الدكتور تفكير بالكلمات!! وكما سبق أن قلنا، العبرة بفهم النص، وليست بالنص.. ما سماه الدكتور حرية مطلقة، في مجال الجنس، هو ارتكاس نحو الحيوانية، فيه بدل أن يسيطر العقل على الشهوة – وهذا هو مجال الإنسانية – الشهوة تسيطر على العقل – وهذا هو مجال الحيوانية – الحرية الفردية، في مجال الجنس، عند الأستاذ محمود، هي ألا تتحرك شهوة جنسية عند الرجل، إلا لإمرأة واحدة، هي زوجته، ولا تتحرك شهوة جنسية عند المرأة إلا تجاه رجل واحد هو زوجها.. أين هذا من كلام الدكتور!؟ .
على كلٍ، فهم الدكتور للحرية الفردية المطلقة كاف جداً، للتدليل على أنه، لم يفهم شيئاً عن فكر الأستاذ كما هو.. ومن يكون هذا هو وضعه لا يحق له أن يخوض فيما خاض فيه.
ومع كل ذلك ذهب الدكتور إلى كيل الإتهامات للأستاذ وفكره، من قول بالذاتية، والمصلحة، وعدم الموضوعية...إلخ، وكلها ليست أكثر من إسقاط.. الصوفية يقولون: نحن مرآة يرى فيها الشخص نفسه!!.