إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعقيب على ورقة: قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمد طه

خالد الحاج عبد المحمود


الإسلام:


دعوة الأستاذ محمود دعوة دينية اسلامية.. وهي دعوة لبعث جديد به يكون الاسلام مدنية جديدة، تسود الأرض كلها.. والاسلام، يقوم كله على التوحيد.. وهذا هو المنطلق الأساسي.
بدأ الدكتور بما اسماه (نقد الحضارة الغربية) على اعتبار أنه المنطلق الأول لدعوة الأستاذ.. وهذا أمر غير صحيح.. المنطلق الأول، والأساسي هو التوحيد الذي يقوم عليه الإسلام، ولذلك نحن نبدأ به.. حسب ما ورد في كتاب الرسالة الثانية، الاسلام يقع في مستويين: الاسلام العام، اسلام الأمر التكويني، وهذا لا يخرج منه شيء في الوجود إذ أنه اسلام الارادة الالهية المتفردة.. والاسلام الثاني هو اسلام الرضا، اسلام البشر.. وهذا هو الاسلام الذي جاء به الرسل جميعهم، من لدن آدم، والى خاتم النبيين.
يقول الدكتور: "ويمكن من خلال هذا أن نستنتج أنّ الحلّ كامن في الإسلام حسب طه لكن ما المقصود بالإسلام؟ أهو الإسلام كما يمارس ويفهم الآن أم هو فهم مخصوص يحاول طه توضيحه؟".. ونحن نسأل هل يوجد اليوم اسلام ممارس ويفهم بصورة واحدة متفق عليها بين المسلمين؟ من المؤكد لا.. فالاسلام عند الشيعة مثلا، يختلف عنه عند السنة، وعند المتصوفة يختلف عنه عند الوهابية، مع أن المصادر واحدة ومتفق عليها، ولكن الفهم يختلف والتطبيق يختلف، وقد أدركت المسلمين النذارة وتفرقوا كما أخبر المعصوم، وجميع الفرق هالكة إلا واحدة.. وهذا ما يجعل التجديد غير مجدٍ، ولابد من البعث.. يقول الدكتور: "ليس المقصود بالإسلام عند طه الإسلام كما هو ممارس منذ قرون فهذا الإسلام له نتائج واضحة فهو لا يحقق حرية الإنسان ولا تصالحه مع الكون وليس ذلك عيبًا في الإسلام ولكن العيب يتمثل في عدم تطوير المسلمين له".. نقل الدكتور هذا خاطيء، ومخل جداً.. الأوصاف التي أوردها هي حق الشريعة، وليست في حق الاسلام.. واضح أن الدكتور يعتبر الشريعة والدين شيء واحد.. الأمر كما هو في كتاب الرسالة الثانية على عكس ما يقول الدكتور، في عبارته (وليس ذلك عيبًا في الإسلام ولكن العيب يتمثل في عدم تطوير المسلمين له)!!، ما قاله الأستاذ عن الاسلام هو العكس تماماً، وهو أن الاسلام لا يتطور!! وهذا القول ورد في كتاب الرسالة الثانية، الذي يزعم الدكتور أنه يعرض الفكرة وينقدها من خلاله!! فقد جاء فيه ما نصه: "المسلمون يقولون أن الشريعة الاسلامية شريعة كاملة.. وهذا صحيح.. ولكن كمالها إنما هو في مقدرتها على التطور، وعلى استيعاب طاقات الحياة الفردية، والاجتماعية، وعلى توجيه تلك الحياة في مدارج الرقي المستمر، بالغة ما بلغت تلك الحياة الاجتماعية والفردية من النشاط والحيوية والتجديد"..هذا ما ورد في مقدمة الكتاب!! فالتطور يتعلق بالشريعة وليس بالاسلام، وهذا وارد بالنص، ففي خاتمة كتاب الرسالة الثانية جاء ما نصه: "أن للدين شكلا هرميا قمته عند الله، حيث لا عند، وقاعدته عند الناس..((إن الدين عند الله الإسلام))، ولقد تنزلت هذه القاعدة من تلك القمة.. تنزلت إلى واقع الناس، وحاجتهم وطاقتهم البشرية، والمادية، فكانت الشريعة.. وستظل قمة هرم الإسلام فوق مستوى التحقيق، في الأبد، وفي ما بعد الأبد، وسيظل الأفراد يتطورون في فهم الدين، كلما علموا المزيد من آيات الآفاق، وآيات النفوس".. أما في كتاب لا (إله إلا الله) فقد جاء قوله تحت عنوان جانبي (الاسلام لا يتطور): "ومع أن الشريعة تتطور، إلا أن الاسلام لا يتطور، وذلك لأنه سرمدي لا يتناهى.. ففي الأرض بدايته ونهايته عند الله في علياه".. الطبعة الثانية ص 35.. لا يمكن لإنسان موضوعي أن يطلع على الفكرة ثم يزعم أنها تقول بأن الإسلام يتطور!!.
إن الحد الأدنى من الموضوعية، في النقد، هو أن لا تنسب للآخر خلاف ما يقوله، أو تغير أقواله بخلاف ما ترمي اليه.. والدكتور ينسب للأستاذ محمود عكس ما يقول، وفي القضايا الأساسية، ثم ينقد ما نسبه اليه، زاعما أنه ينقد فكر الأستاذ محمود!! ما نقله الدكتور نفسه، يدحض زعمه بتطور الاسلام.. فهو مثلاً: نقل النص التالي: (وإنّما كان الإسلام مقرًّا بالحرية المطلقة لأنّه "لا يرى في ترقي الفرد حدًّا يقف عنده، فهو عنده (الإسلام) ساير من المحدود إلى المطلق").
تعليقاً على مفهوم الاسلام العام، اسلام الخلائق جميعها، يقول الدكتور عن الأستاذ محمود: (ويدعم طه حجيّة هذا الرأي بالاستناد إلى فهم مخصوص للآية القرآنية "ولَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السَمَاوَاتِ والأرْض طَوْعًا وكَرْهًا وإليهِ يَرْجِعُونَ")..
هل الاستدلال بهذه الآية، على أن الخلائق، في الحقيقة مسلمة لله، هذا رأي خاص؟! هل هنالك أي فهم آخر يمكن أن تؤديه الآية؟! في الواقع هذا هو الفهم الذي يفهمه كل من يفهم اللغة العربية، كما أنه الفهم الذي يفهمه من يعرف اوليات التوحيد من المسلمين، لأنه يقوم على فهم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).. فإذا كان للدكتور فهم آخر كان ينبغي أن يقدمه.. ويواصل الدكتور فيقول: (وينتهي طه إلى القول بأنّ "الإسلام كدين بدأ ظهوره بظهور الفرد البشري الأول".. ويبدو واضحًا من خلال هذه الفكرة رؤيته الإيمانية التمجيدية للإسلام إذ هو يخلط عن وعي أو عن غير وعي بين حاجة الإنسان إلى الظاهرة الدينية - باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية - وبين الإسلام الذي هو دين من بين جملة أديان عرفها الإنسان).. واضح أنه يقصد بعبارة (وبين الإسلام الذي هو دين من بين جملة أديان عرفها الإنسان) يقصد الاسلام كما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم).. ليس هنالك خلط ولا حتى غموض، فالأمر واضح جداً.. فالاسلام دين واحد في الحقيقة ـ اسلام الارادة ـ هو دين الخلائق كلها، بما فيها الانسان، فجميعها مسلمة لارادة الله.. والاسلام الخاص، اسلام العقول ـ اسلام البشر، وهو بدأ مع بداية العقل البشري.. المعنى واضح جداً، في كتاب الرسالة الثانية الذي يزعم الدكتور أنه ينتقده، وقد جاء في باب الاسلام ما نصه: "فما هو الإسلام؟ أسلم: إنقاد واستسلم. والإسلام، في الحقيقة، الانقياد والاستسلام. ونعني بالحقيقة ما فطرت عليه الأشياء. والله تبارك وتعالى يعني هذا حين قال: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، طَوْعًا وَكَرْهًا، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟)) والدين يعني هنا الشأن، والسيرة، والسنة. ودين الله يعني سنة الله في خلقه، وهي ما فطرت عليه الأشياء. ولقد فطرت الأشياء منقادة لله، ((وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، طَوْعًا وَكَرْهًا، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟)) والإسلام، بهذا المعنى هو دين الخلائق جميعها، في البداية، وفي النهاية، وفيما بين البداية والنهاية. ولا يستثنى من ذلك الإنسان. بيد أن الرحمة الإلهية لم ترض للخلائق الانقياد بغير إرادة، فمدت، بدقائق لطفها، لطليعتها، وهو الإنسان، أن يتوهم أنه يختلف عن بقية المخلوقات" ص139".. يقول الأستاذ محمود من نفس المصدر "في قوله تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله، وَهُوَ مُحْسِنٌ، واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ؟)) والإشارة اللطيفة هنا هي عبارة ((وهو محسن)) فإنها سر هذه الآية، وهي أيضا سر الآية الأخرى التي تقول ((ومن يسلم وجهه إلى الله، وهو محسن، فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور)) وإنما كانت عبارة ((وهو محسن)) سر الآيتين لأن جميع العناصر الصماء مسلمة وجهها لله ولكنها غير محسنة - غير واعية ولا مدركة - فلا عبرة بإسلامها، لأنها مسلمة في منطقة الإرادة، ولم تبلغ أن تكون مسلمة في منطقة الرضا، فذلك حظ البشر وحدهم، وهو ما من أجله أرسل الله الرسل" ص 140.. الموضوع واضح جداً، ويمكن أن يدركه كل انسان يريد أن يدركه، ولكن الدكتور يريد أن ينقد قبل أن يدرك!! اسمعه يقول: "ولعلّ ما به دعّم طه فكرته هذه فجعل "الإسلام دين الخلائق جميعها" استناده إلى مفهوم الفطــــرة. ولا يخفى ما لهذا المفهوم من إشكال والتباس فهو يبقى مفهومًا زئبقيًّا لا يمكن حدّه، إذ ما الفطرة؟ وهل يمكن الإقرار بأنّ جميع الناس يشتركون في فطرة واحدة؟ وهل لبقية الكائنات - الحيوان والنبات - فطرة؟".. ، لا يوجد اي التباس حول مفهوم الفطرة هنا، فهو واضح وضوح الشمس، وإنما أنت من ينسب اليه الالتباس.. وقد ورد مفهوم الفطرة، بصورة واضحة جداً، وكان ينبغي أن تذكره، وتورد اعتراضك عليه.. فقد جاء في ما نقلناه أعلاه : "والدين يعني هنا الشأن، والسيرة، والسنة. ودين الله يعني سنة الله في خلقه، وهي ما فطرت عليه الأشياء. ولقد فطرت الأشياء منقادة لله".. فالفطرة هي الاسلام والانقياد لله، وهذا ما خلقت عليه الخلائق منذ البداية. كان يمكن أن تورد هذا القول، وتناقشه، بدل التشكيك غير المجدي، وإدعاء الابهام والالتباس!! هذا أمر بعيد جداً عن النقد الفكري، الموضوعي.. في الواقع لا علاقة له بالنقد!! يقول الدكتور: "وإذا كان البشر يشتركون في الفطرة فكيف يمكننا أن نفهم الاختلاف بين الأديان؟ فهل اليهودي مجانب للفطرة، وهل المسيحي مناف للفطرة وهل لا فطرة للملحد؟".. هل معنى قولك هذا، أنك ترى أن الناس مختلفون في الفطرة؟! قولك يعطي هذا، ولا يعطي غيره!! هذه مماحكة ـ لا قيمة لها، الكلام واضح (ولقد فطرت الأشياء منقادة لله "وله اسلم من في السموات والأرض").. ومن ذكرتهم لا يخرجون من الخلائق المذكورة والله تعالى يقول: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" ومن ذكرتهم لا يخرجون من كونهم ناس.. فاليهودي، والمسيحي، وجميع أصحاب الأديان مسلمون، يقول تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ".. ويقول المعصوم: "خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي (لا إله إلا الله)".. فجميعهم جاؤوا بالتوحيد، والاختلاف بينهم في الشرائع، وفي درجة التحقيق في التوحيد.. فالاسلام دين واحد، وكل رسول من الرسل جاء بقسط منه إلى أن اكتمل في المصحف، واكتماله هذا من حيث البلاغ، اما من حيث التحقيق فسرمدي لا انتهاء له.. ولقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن كل ما أراد الله أن يوحيه للناس اكتمل بين دفتي المصحف، فلا حاجة لوحي جديد.. وكل هذا ورد في كتاب الرسالة الثانية.
ومع كل أقوال الدكتور المذكورة، هو يعترف بأن الأستاذ محمود، في فكرة الاعتقاد بأن الاسلام دين الخلائق، يتفق مع الفكر التقليدي.. فهو يقول "إذا كانت فكرة الاعتقاد بأنّ الإسلام "دين الخلائق " ممّا يشترك فيه طه مع الفكر التقليدي"!!.. وهو يرى أن اختلاف الأستاذ محمود يأتي بالقول بأن الاسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم رسالتان.. يقول: "فأين تكمن الطرافة في هذا الفهم؟ يرى طه أنّ الرسالة المحمدية تنقسم إلى رسالتين".. القول بالطرافة صحيح، إلا أنه طارف وتليد أيضاً!! بمعنى أنه فهم جديد لنفس النص القديم.. ويستعرض الدكتور الموضوع تحت عنوانين.. العنوان الأول: الرسالة الأولى ـ في حوالي صفحة ـ والعنوان الثاني: الرسالة الثانية في حوالي صفحة وثلث.. ونحن سنتناول الموضوع بنفس عناوينه، ولا نحتاج الى تفصيل بعد عرض موقفه من الاسلام..