إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمّد طه (١٩٠٩–١٩٨٥)[١]
د. باسم المكي
IV. حدود رؤية طه:
حاولنا في ما تقدّم تحليل أفكار طه لنتبيّن المنطلقات الفكرية والأسس المعرفية التي اجترح منها أطروحته وسنخصص هذا الجزء لنتبيّن الحدود المعرفية لهذه الرؤية ونقصد بالحدود هنا "سقف الفكر" الذي لا يمكن تجاوزه إمّا لقصور في البنية الثقافية، وإمّا لحدود المعرفة في زمنه أو للضغوط الاجتماعية والسياسية في عصره، فالفكر يبقى دائمًا رهين عوامل معقّدة تسمح له بأن ينتج أفكارًا طريفة لكنها أيضًا قد تمنعه من الانفتاح على أطر فكرية أرحب. غير أنّه قبل تبين حدود هذا الفكر يجب أن نؤكد أنّ طه كان من جملة المفكرين الذين بفضل وعيهم وحسّهم النقدي كانوا "أفضل من التقط المؤشرات المنتشرة في مجتمعاتهم عن الاستعداد لتبني مقتضيات الحداثة ومن ضمنها المطالبة بتشريعات تقدمية مستمدة من القيم القرآنية ومحققة للمزيد مـــن الحرية والعدل" (عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة ص 159) فكان يعبر عن حيوية الإسلام، باعتباره دينًا حيًّا انطلاقًا من رؤية تطورية واضحــة ووعي عميق بتاريخية الأحكام التشريعية بل حتى القرآنية. كما كان طه مفعمًا بروح الحداثة مدرجًا مشروعه ضمن الأفق الإنساني فهو حسب مقدمة الكتاب "داعية لتشكيل وعي ديني جديد (كوزمولوجي)، وفقه تبرز قامات إنسانية جديدة تحررت من الخوف، ومن الكبت، وسلمت دواخلها" (الرسالة الثانية ص 42)، إلا أنّه على الرغم من هذا كلّه، فإنّ لهذا الفكر حدودًا يقف عندها وإذا ما كانت قيمة فكر طه تكمن في مراجعة السابق ونقده السائد وإقراره بالاختلاف والتطوّر فلا بدّ من ممارسة هذه القيم نفسها على هذا الفكر فما هي أهم الحدود المعرفية في فكر طه؟
1. نقده للفلسفة الغربية:
يقوم فكر طه أساسًا على جعل الإسلام دينًا كونيًّا وفلسفة إنسانية عامة لذلك فإنّ نقده لم يسلط على الوضع الإسلامي فحسب وإنّما تجاوزه لنقد الفلسفة الغربية بتياراتها المختلفة وقد اتسمت لهجة النقد عنده للغرب بالاتزان ومحاولة الغوص في خصائص الفكر الغربي فلا أثر في لغته لعبارات التكفير ولا السخط شأن قطب مثلاً الذي يرى في الغرب شرًّا كلَّه. ولعلّ هذا الاتزان جعله يتفطن إلى كثير من سلبيات المدنية الغربية التي سيطر فيها البعد الاستهلاكي والمادي على الجانب الروحي. وطه في تفطنه إلى هذه الظاهرة لا يختلف عن الكثير من المفكرين الحداثيين بل عن فلاسفة مدرسة "فرانكفورت" في تشديدهم على هذه النقطة، غير أنّ طه لم تكن له الأرضية الفلسفية المعرفية الكافية ليصل بنقده إلى حدود وعي هذه المدرسة فاقتصر على تأكيد الظاهرة دون البحث في أسبابها. ولعلّ هذا الحدّ - افتقار الأرضية الفلسفية - يتضح خاصة لما سلّط نقده على الفلسفات الاجتماعية الغربية، وأكد أنّها "أهدرت حرية الفرد في سبيل مصلحة الجماعة" (الرسالة الثانية ص 93). والحق أنّ هذا الحكم يتسم بالتسرع وعدم الموضوعية ذلك أنّ هذه الفلسفات قامت على الحداثة التي منحت الفرد الحرية المطلقة في المجال السياسي والاقتصادي وحتى الجنسي. ولعلّ إيلاء الفرد مكانة مهمّة في فلسفات الحداثة هو الذي ضمن للحضارة الغربية حركيتها وقدرتها الدؤوب على مراجعة ذاتها. إنّ سلبَ طه الفلسفات الغربية إقرارها بالحرية الفردية حكم لا يجد سنده في الواقع الغربي ومهما يكن في التطبيق من ثغرات فهذا لا ينفي أنّ الفلسفاتِ الغربية قامت أساسًا على مبدأ إيلاء الفرد كبير أهمية في شتى المجالات. كما أنّنا نعتقد أنّ نقد طه للفلسفات الأوروبية جملة يحتاج إلى مراجعة، ذلك أنّ هذه الفلسفات تختلف اختلافًا جوهريًّا في أسسها النظرية ومنطلقاتها المعرفية زد على ذلك أنّ الفرد مهما كان اطلاعه دقيقًا، فإّنه غير قادر على دراستها دراســـة شاملة اللّهم إلا إذا كانت قراءته لها سطحية غير نافذة إلى أعماقها. وإجمالاً يمكن القول إنّ طه على الرغم من تنبهه إلى بعض ثغرات المدنية الغربية، فإنّ نقده لم يسلم من الذاتية وعدم الموضوعية، ولعلّ هذه النظرة الذاتية كانت مرتهنة بحد من حدود فكر طه وهو عدم التخصص في الفلسفات للحكم عليها.
2-مقاربة طه وتطوير الشريعة:
أما في خصوص مقاربته الساعية إلى تطوير التشريع الإسلامي، فإنّنا نراها مشدودة إلى حدود أهمها: - البقاء في إطار نصّي:
ينطلق طه دائمًا ليشرّع لكلامه من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وحتى التطوير عنده "ليس قفزًا عبر الفضاء، ولا هو قول بالرأي الفجّ، وإنّما هو انتقال من نص إلى نص.." (الرسالة الثانية ص 78) وهو بذلك لا يختلف عن التيار الأصولي ولا السلفي، فالكلّ متحيّلٌ على النص يُقوّله ما يريد هو قوله. ويبدو هذا التعامل جليًّا عند طه فهو في إيراده للنصّ القرآني يتعامل معه تعاملاً ذاتيًّا يخدم القصد الذي يريده منه فلا نجد أحيانًا قرائن نصيّة ولا معنوية تدعم فهم هذه الآية أو تلك بل هو أحيانًا في تأويله يقرب إلى التأويل الصوفي. ولعلّ صلة طه بهذا الفكر واضحة من خلال تأويله لعديد الآي مثل تأويله للحروف "آلم، كهيعص.." (الرسالة الثانية ص 151) أو تفريقه بين الإيمان والإسلام ففهمه مخالف لصريح الآية لذلك يمكن القول إنّ فهمه كان ذاتيًّا خادمًا لأغراضه غير قائم على أسس علميّة دقيقة يفسر بها النص. أمّا تعامله مع نصوص الحديث فتتسم بعدم الشك في الأحاديث وعدم البحث عن صدقها أو وضعها من ذلك حديث "غربة الإسلام" يتعامل معه طه دون وعي نقدي ولا بحث عن صدقه أو عن دلالة وضعه خاصة وأنّه يعبّر عن الموقف المتشائم من الدنيا، ويرى في الدين خلاصًا وفي الدنيا فسادًا كلما ابتعدنا عن زمن "الإسلام الصافي". ولا يخلو تعامله مع الحديث من التأويل الذاتي الذي يخدم أغراضه.
- فكر الداعية:
إنّ هذا التعامل الذاتي مع النصوص وعدم دراستها دراسة علمية دقيقة كان ناجمًا عن أنّ طه كان "داعية"، وفكر الداعية ليس فكرًا نقديًّا يقوم على النقد والتشكيك والتمحيص، وإنّما يقوم على جلب الحجج للانتصار إلى موقف، وتغلب عليه النفعية المباشرة للخروج من مأزق الخصم كما أنّ فكر الداعية ليس موجهًا أساسًا إلى العقل بقدر ما يتوجه إلى العاطفة والوجدان. وفضلاً عن ذلك نلاحظ أنّ هذا الفكر تتحكم فيه النظرة التمجيدية للإسلام، فاعتبار طه أنّ الإسلام "هو المنقذ من الضلال" وإنّ كل الفلسفات الغربية فاشلة دليل على اعتقاده أنّ الإسلام هو الحقيقة وأنّ غيره من الأديان والفلسفات حياد عن الحقّ وبدعة يجب تصحيحها. وما إقرار طه بأنّ اللغة العربية "أكمل اللغات" (الرسالة الثانية ص 153) لأنّها لغة القرآن إلا دليل على هذا الفكر التمجيدي أو على هذا الحد الذي يعوق الفكر عن المقاربة العلمية والموضوعية.
- القول بالنسخ:
إنّ النفعية والتعامل الذاتي مع النصّ والنظرة التمجيدية تمثّل حدودًا مشتركة بين طه والفكر السلفي عمومًا - وإن بتفاوت - غير أنّ طرافة فكر طه تكمن في قوله بالنسخ ذلك أنّ طه يعتبر أنّ القرآن نَصَّ على أحكام تخصّ مجتمع المدينة في حين أنّ القرآن المكي هو قرآن يشمل عموم البشر لذلك فإنّنا لا بدّ أن نقيم تشريعنا الحالي على الطور المكي لنؤسس لمرحلة الإسلام الكوني لكن هل يجوز التفريق بين القرآنين؟
إنّنا نرى أنّه كما لا يجوز التعامل مع آيات الأحكام في معزل عن سياقها النصي والمرجعي فإنّه أيضًا لا يجوز الفصل بين القرآنين لأنّ قيمة الرسالة تكمن في وحدتها كما أنّنا نرى أنّ المقياس الذي حدده طه للفصل بين القرآنين قاصر على التمييز الدقيق بين الآيات المكية والمدنية. على الرغم من أنّ النسخ موقف ينفرد به طه فإنّنا نراه قريبًا من رأي الإصلاحيين في الأخذ ببعض ما في الرسالة المحمدية وترك بعضها الآخر.
الخاتمة:
إنّ فكر طه، وإن كانت تعوقه حدود عدّة، بقي، وإن أوهم موقفه بالجدّة، في دائرة الفكر السلفي الإصلاحي وإنّ قيمة فكره لا تكمن في النتائج التي توصل إليها ولا في تفطنه إلى أنّ القرآن ينطق به الرجال وإنّما تكمن في أنّه مارس المنهج التطوري ووصل به إلى أقصى ما تمكنه ثقافته غير آبهٍ بقديم قد تكرس ولا بسائدٍ قد أحكمَ السيطرة وقمعَ كلَّ جديدٍ حتى بالتصفية الجسدية.
بيبليوغرافيا:
أسلفنا أنّ السلطتين السياسية والدينية قد حجبتا فكر طه وحرصتا على أن تبقى كتبه مغمورة، لذلك لم تطبع وبقيت مجهولة لدى القارئ العربي، ولم ينشر فكره إلا بعد أن جمعت ابنته أسماء محمود محمد طه وتلميذه النور محمد ثلاثة من كتبه، وتمّ نشرها في كتاب جامع بعنوان "نحو مشروع مستقبلي للإسلام" طبع في المركز الثقافي العربي ودار قرطاس سنة 2002.
أما الدرسات المهتمة بفكر طه فهي ضئيلة، ونشير هنا إلى بعض الكتب التي درست فكر طه: فقد أشار عبد المجيد الشرفي إلى فكر طه في كتابين:
*الإسلام والحداثة، تونس، الدار التونسية للنشر ط 2، 1991
*الإسلام بين الرسالة والتاريخ، بيروت دار الطليعة ط 1، 2002
وعثرنا على دراسة لفكر طه نشرت أخيرًا.
*عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام: محمود محمد طه والمثقفون قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، القاهرة دار رؤية.
________________________________________
[1]- هذا البحث من مشروع بحثي بعنوان" أعلام التجديد في الفكر الإسلامي" أشرف عليه الدكتور بسام الجمل في إطار مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.