إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمّد طه (١٩٠٩–١٩٨٥)[١]

د. باسم المكي


III. تطوير التشريع الإسلامي:


ليس المقصود بالإسلام عند طه الإسلام كما هو ممارس منذ قرون فهذا الإسلام له نتائج واضحة فهو لا يحقق حرية الإنسان ولا تصالحه مع الكون وليس ذلك عيبًا في الإسلام ولكن العيب يتمثل في عدم تطوير المسلمين له. فالإسلام كما يمارس هو في الحقيقة عدول عن غايات الرسالة وأهدافها النبيلة لذلك سعى طه إلى تأسيس فهم جديد للإسلام يختلف به عن الفهم السائد لغرض ملاءمة الإسلام مع روح العصر.
فما هو مفهوم طه للإسلام؟

1. مفهوم الإسلام عند طه:


للإسلام في نظر طه مفهومان: مفهوم عام وآخر خاص.

أ‌- المفهوم العام:


ينطلق طه لتبين هذا المفهوم العام من المعنى المعجمي لكلمة "إسلام" فـ"الإسلام في، الحقيقة، الانقياد والاستسلام ونعني بالحقيقة ما فطرت عليه الأشياء" (الرسالة الثانية ص 139). وهذا الانقياد لا يخصّ الإنسان فحسب، بل الكائنات والأشياء ما دام الانقياد والاستسلام للخالق جِبلّة وفطرة "فطرت عليها الأشياء" فيكون الإسلام بهذا المعنى العام "دين الخلائق جميعها في البداية وفي النهاية وفيما بين البداية والنهاية" (الرسالة الثانية ص 139) ويدعم طه حجيّة هذا الرأي بالاستناد إلى فهم مخصوص للآية القرآنية "ولَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السَمَاوَاتِ والأرْض طَوْعًا وكَرْهًا وإليهِ يَرْجِعُونَ" وينتهي طه إلى القول بأنّ "الإسلام كدين بدأ ظهوره بظهور الفرد البشري الأول" (الرسالة الثانية ص 142). ويبدو واضحًا من خلال هذه الفكرة رؤيته الإيمانية التمجيدية للإسلام إذ هو يخلط عن وعي أو عن غير وعي بين حاجة الإنسان إلى الظاهرة الدينية - باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية - وبين الإسلام الذي هو دين من بين جملة أديان عرفها الإنسان.
ولعلّ ما به دعّم طه فكرته هذه فجعل "الإسلام دين الخلائق جميعها" استناده إلى مفهوم الفطــــرة. ولا يخفى ما لهذا المفهوم من إشكال والتباس فهو يبقى مفهومًا زئبقيًّا لا يمكن حدّه، إذ ما الفطرة؟ وهل يمكن الإقرار بأنّ جميع الناس يشتركون في فطرة واحدة؟ وهل لبقية الكائنات - الحيوان والنبات - فطرة؟
وإذا كان البشر يشتركون في الفطرة فكيف يمكننا أن نفهم الاختلاف بين الأديان؟ فهل اليهودي مجانب للفطرة، وهل المسيحي مناف للفطرة وهل لا فطرة للملحد؟

ب- المفهوم الخاص:


إذا كانت فكرة الاعتقاد بأنّ الإسلام "دين الخلائق" ممّا يشترك فيه طه مع الفكر التقليدي فإنّ طرافة فكره تكمن في "الفهم المخصوص أو الخاص للإسلام" والمقصود بالإسلام هنا الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله. فأين تكمن الطرافة في هذا الفهم؟ يرى طه أنّ الرسالة المحمدية تنقسم إلى رسالتين:

• الرسالة الأولى:
الرسالة الأولى "وهي التي وقع في حقها التبيين بالتشريع وهي رسالة المؤمنين" (الرسالة الثانية ص 149) وتخص هذه الرسالة فترة المدينة. ويستوقفنا في هذا التعريف مفهومان هما التشريع والمؤمنون. فالتشريع هو جملة الأحكام القرآنية الخاصة بتنظيم علاقة المسلم بالمسلم من جهة وبالآخر المختلف من جهة أخرى، فهو شريعة الله بمعنى "القَدْرُ من الدين الذي يخاطب الناس - عامة الناس - على قدر عقولهم" (الرسالة الثانية ص 73) بمعنى أنّ التشريع هو الخطاب الذي وجهه الله إلى الناس حتى يستوعبوه، فيكون بذلك مطابقًا لواقعهم الاجتماعي ومستواهم الثقافي. ويكمن الإشكال في تعريف طه في لفظ المؤمنين؛ إذ يختلف "الإيمان" عند طه عن "الإسلام" فهو يعتبر أنّ الناس ينطلقون من فهم خاطئ للإيمان والإسلام معتبرًا أنّ الإسلام أرقى مرتبة من الإيمان "فما كلّ مؤمن مسلم ولكن كلّ مسلم مؤمن" (الرسالة الثانية ص 149). وإنّما ساد هذا الغلط من "فهم خاطئ حسب طه لآية "قَالَتِ الأعْرَابُ آمنَّا قُلْ لَمْ تُؤمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أسْلَمْنَا ولَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ قُلُوبَكُم "و "ما علموا (الناس) أنّ الأمر يحتاج إلى نظر" (الرسالة الثانية ص 83). وما نفهمه من خطاب طه أنّ أمّة الإسلام أرقى من أمّة الإيمان، وما به يَحتج إلى هذا الفهم حديث الإخوان "وا شوقاه لإخواني الذين لم يأتوا بعد" (الرسالة الثانية ص 170). لذلك، يؤكد طه أنّ الرسالة الأولى - المنزّلة في المدينة - كانت خاصة بالمؤمنين، والمهمّ عنده أنّ هذه الآيات المدنيّــــة إنّما نزلت وهي محكومـــــة بإطار تاريخي واجتماعــــي وثقافي لا يمكن تجاوزه بمعنى أنّها كانت تراعي شروط العمران وثقافة المؤمنين في ذلك الوقت وبذلك، فهو ينفي أن يكون الرقّ وتعدّد الزوجات والجهاد مثلاً أصلاً من أصول الإسلام. ما دامت الرسالة الأولى قد ذكرتهم. فهذه الرسالة إنما كانت تنزل وفق حاجات ذلك المجتمع وتحرص على أن لا تحدث فيه كبير تغيير. على أنّ الطريف في موقف طه أنّه لم يقف عند هذه الفكرة، ولو فعل ذلك لبقي ضمن الخطّ الإصلاحي - عبده والحدّاد مثلاً - وإنما أقرّ بضرورة تجاوز الرسالة الأولى - رسالة المؤمنين -لتطبيق الرسالة الثانية - رسالة المسلمين - ففيم تتمثل الرسالة الثانية؟

• الرسالة الثانية:
انطلاقًا من الأسس الفكرية نفسها يؤكد طه أنّه إذا كان القرآن قد بُنِيَ على لحظتين: لحظة تخصّ المدينة وأخرى تخصّ مكة فإنّ الرسالة الأولى - وهي الآيات المدنية الخاصة بالمؤمنين - كانت تنسجم مع أحوال عمرانهم وبنيتهم الثقافية والفكرية. أمّا الرسالة الثانية من القرآن - فقد أرجئ العمل بها حتى يتهيأ العصر والإنسان القادر على استيعابها. لكن إذا كان الفصل بين الرسالتين قائمًا على الفصل بين الآيات المكية والمدنية فما المقياس الذي أقامه طه حتى نضمن أنّ آية ما مدنية وليست مكية؟ يقيم طه تصنيفه للآيات المكية والمدنية انطلاقًا من بنية الخطاب القرآني "فكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ "يا أيّها الذين آمنوا" فهو مدني ما عدا ما كان من أمر سورة الحجّ وكل ما ورد فيه ذكر المنافقين؛ فهو مدني وكل ما جاء فيه ذكر الجهاد (...) فهو مدني" وأما المكيّ فهو "كلّ ما وقع فيه الخطاب بلفظ "يا أيّها النّاس" أو "يا بني آدم" (الرسالة الثانية ص 150). إنّ اختلاف المخاطبين هو المعيار التصنيفي الذي استند إليه طه ومن قبله القدامى للتفريق بين ما هو مدني وما هو مكيّ. لكن إلى أي حدّ يمكن الاطمئنان لصحة هذا التصنيف خاصة والاستثناءات موجودة في كلام طه نفسه؟ وهل يمكن حصر هذه الاستثناءات في حدود آيات محددة أم القضية أعمق من ذلك؟ وهل يمكن أصلاً الفصل في القرآن بين آياته المكية وآياته المدنية؟ وعلى الرغم ممّا يثيره معيار الفصل بين آيات القرآن من إشكاليات، فإنّ الرسالة الثانية على الإجمال "لم يقع في حقّها التفصيل" (الرسالة الثانية ص 167) فهي الآيات المكية التي تخاطب البشر كافة وتحمل قدرًا كبيرًا من التسامح "لاَ إكرَاهَ فِي الدِينِ" "اُدعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلهم بالتِي هي أحسنُ إنَّ رَبَّكَ أعْلَمُ بمَنْ أظَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ".
إنّ هذه الرسالة حسب طه كانت فوق وعي الجماعة الإسلامية الأولى، لذلك ما كان لها أن تتحقق والدليل على ذلك هجرة الرسول وتغيير خطاب الوحي. غير أنّ طه يرى أنّه قد آن لهذه الرسالة أن تتحقق في عصرنا الحالي لتطوّر العقليات. فقد تهيأت الظروف لظهور أمّة المسلمين و"أصبح واجبًا على ورثة الإسلام - على ورثة القرآن - أن يدعوا إلى الرسالة الثانية تبشيرًا بالعهد الجديد الذي أصبحت البشرية تشعر بالحاجة الملحة إليه" (الرسالة الثانية ص 75). إنّ تطوير الشريعة ومن ثمة الرؤية الإسلامية حسب طه لا يتم إلا بهذه الرسالة الثانية المنفتحة وليس الانتقال من الرسالة الأولى إلى الثانية إلاّ "انتقال من نصّ إلى نصّ" (الرسالة الثانية ص 78)، من نصّ فرع تمّ تطبيقه في عصر الصحابة إلى نصّ أصل قابل للانفتاح على كلّ العصور.
ويمكن القول إنّ هذه النظرة التطوّرية للدين قامت على شكل هرمي "قمته (الدين) عند الله حيث لا عند، وقاعدته عند الناس" (الرسالة الثانية ص 185) وتكون القاعدة هي الشريعة التي تنزّلت لتحقيق حاجيات البشر حسب طاقتهم في زمن معلوم أمّا قمة الهرم فهي فوق مستوى التحقيق "وسيظلّ الأفراد يتطورون في فهم الدين كلّما علموا المزيد من آيات الآفاق وآيات النفوس" (الرسالة الثانية ص 185). وإذا كانت قاعدة الدين موافقة للرسالة الأولى فإنّ طريق القمة ينطلق من الرسالة الثانية، حيث يرتقي الإنسان المراتب لفهم مقاصد الله وتحقيق الحرية الفردية المطلقة.