إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمّد طه (١٩٠٩–١٩٨٥)[١]
د. باسم المكي
I. نقد الرؤية الغربية:
إنّ تطوير التشريع الإسلامي عند طه يندرج ضمن مشروع أكبر هو تطوير الرؤية الإسلاميّة وذلك بإعادة قراءة الإسلام وفق متطلبات العصر لذلك فإنّ تطوير التشريع إن هو إلاّ جانب من تطوير الرؤية الإسلاميّة، غير أنّ تطوير هذه الرؤية عند طه يقترن بثنائية النقد وتأسيس البديل. والنقد عند طه كان منصبًّا على الرؤية الإسلاميّة السائدة كما الرؤية الغربية، باعتبارها الرؤية المهيمنة وحاملة لواء التقدم والحداثة.
وينطلق طه في نقد الرؤية الغربية من التمييز بين المدنيّة والحضارة، وهو ما يشفّ عنه قوله "المدنيّة غير الحضارة وهما لا يختلفان اختلاف نوع، وإنما يختلفان اختلاف مقدار. فالمدنيّة هي قمّة الهرم الاجتماعي والحضارة قاعدته" (الرسالة الثانية ص 87). ويتمثل هذا الاختلاف في المقدار كون المدنيّة تجمع بين "حياة الفكر وحياة الشعور" (الرسالة الثانية ص 87) وبعبارة أخرى المدنيّة تجمع جمعًا لبقًا بين المادة والروح فهي تهتم بالحياة المادية قدر اهتمامها واحتفائها بالحياة الروحية للأفراد فتقيم بذلك نظامًا أخلاقيًّا به يتمكن الفرد من "حسن التصرّف في الحريّة الفرديّة المطلقة" (الرسالة الثانية ص 87) فالمدنيّة عند طه هي الأخلاق "من غير أدنى ريب!!" (الرسالة الثانية ص 87).
ويرى طه أنّ الحضارة الغربية بهذا المعنى لم تصل إلى مرحلة المدنيّة فالحضارة، على الرغم من منجزاتها العلميّة المتطورة وتحقيق الرفاهة للإنسان، فإنّ موازين القيم فيها مختل. فالمدنيّة الغربية الحاضرة ذات وجهين "وجه حسن مشرق الحسن، ووجه دميم... فأمّا وجهها الحسن، فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلميّة، حيث أخذت تطوّع القوى المادية لإخصاب الحياة البشريّة وتستخدم الآلة لعون الإنسان: وأمّا وجهها الدميم، فهو عجزها عن السعي الرشيد إلى تحقيق السلام" (الرسالة الثانية ص 88). ويرجع طه فشل الحضارة الغربية في عدم الوصول إلى المدنيّة لقيامها على أسس نظرية فلسفية وعملية عجزت عن تقديم جواب سليم على حقيقة علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الفرد بالكون. فكيف تجلت علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الفرد بالكون في الرؤية الغربية من وجهة نظر طه؟
يرى طه أنّ الفلسفات الاجتماعيّة - دون استثناء - إلى حدود الشيوعية قد فشلت في إدراك "العلاقة الصحيحة "بين الفرد والجماعة، لأنّها اعتقدت أنّ إيلاء الفرد حرية مطلقة سيكون حتمًا ضدّ مصلحة الجماعة"؛ فهي قد ظنت أنّ الفرد إذا وجد الفرصة في ممارسة حريته، فإنّ نشاطه سيكون ضدّ مصلحة الجماعة، ولمّا كانت الجماعة أكثر من الفرد فإنّ مصلحتها أولى بالرعاية من مصلحته" (الرسالة الثانية ص 93). لذلك سلبت هذه الفلسفات - كلّها - الفرد حريته في سبيل صلاح الجماعة لكن هل يمكن جمع الفلسفات الغربية كلّها - على الرغم من الاختلاف والتعدد بل التناقض بينها - في خانة واحدة ونفي إقرارها بإعطاء الفرد الحرية المطلقة؟. وهل يمكن الإقرار بهذه الحقيقة في بسط سريع ومقتضب دون تفحص كل فلسفة تفحصًا علميًّا صارمًا؟
أمّا في خصوص إدراك الفلسفات لعلاقة الإنسان بالكون، فإنّ طه يرى أنّ عجزها أكبر من عجزها عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة. ذلك أنّ الفلسفات قد زرعت في "خلد الإنسان أنّ مكانه من الكون مكان اللدد والخصومة" (الرسالة الثانية ص 97) فأصبح الاعتقاد السائد في الغرب يكمن في أنّ الإنسان في علاقة صراع دائمة مع الكون وما من اكتشاف علمي يُحقق إلاّ انتصار على الكون وليس فهمًا له. ولعلّ هذا المنطق هو الذي دفع بالفلسفة إلى اعتبار الدين مرحلة طفولة الإنسان، وما دام الإنسان في هذا العصر قد اكتشف أسرار الكون ووصل إلى القمّة فلم "يجد ذلك الكائن الذي يدعونه الله" (الرسالة الثانية ص 97).
ويمكن القول إنّ إهمال الفلسفات الغربية الجانب الروحي في الإنسان هو العنصر الذي يساهم في إفقار هذه الفلسفات فما استطاعت تشكيل تصوّر ينسجم فيه الفرد مع الجماعة من جهة ولا مع الكون من جهة أخرى. ولذلك، فإنّه من البديهي أن يربط طه أقصى رتب الضلال في فهم علاقة الإنسان بالكون بالشيوعية وكيف لا يفعل ذلك وقد اقترنت الشيوعية في الأذهان بالإلحاد وعدم إيلاء الدين كبير أهمية!. وبذلك يمكن التأكيد أنّ بحث طه عن البديل كان مقترنًا بنقد الرؤية الغربية على أنّه يجب القول إنّ هذا النقد كان ذاتيًّا بمعنى أنّ الرؤية الغربية كما صوّرها طه هي نظرته هو للغرب ولثقافة الغرب. وإذا كانت هذه الرؤية الغربية فاشلة في تأسيس سعادة الإنسان فما البديل وعلى أية أرضية يجب أن يتأسس؟
II . تأسيس البديل:
1. رؤية الإسلام لعلاقة الفرد بالجماعة:
إذا كان التصوّر الغربي لعلاقة الفرد بالجماعة - حسب طه - قائمًا على سيطرة الجماعة على الفرد فإنّ "الفرد في الإسلام هو الغاية" (الرسالة الثانية ص 99) وهذه الفردية هي "جوهر التكليف" و"مدار التشريف" (الرسالة الثانية ص 99) إذ لا جزاء يمكن أن يُقام إلاّ في إطار المسؤولية والحرية الفردية. ولتدعيم هذه الرؤية يستند طه إلى النص القرآني "ولاَ تَزرُ وَازرَةٌ وزْرَ أُخْرَى" و"مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ". وانطلاقًا من هذه الآيات التي تنص على مسؤولية الإنسان ومبدأ الفردية في الحساب يرى طه أنّها خير دليل على الحرية الفردية المطلقة في الإسلام. وإذا كان الفرد هو الغاية في الإسلام فكيف يمكن أن يحلّ التعارض بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة؟
لا يفك التعارض حسب طه إلاّ بفضل التوحيد الذي جاءت شريعته على مستويين:
ـ مستوى الفرد، وذلك يظهر في العبادات بما هي علاقة مباشرة بين الفرد وخالقه.
ـ مستوى الجماعة، ويظهر في تشريع المعاملات التي هي تنظيم محكم بين الفرد والجماعة.
ولا يرى طه اختلافًا بين المستويين، بل هما متكاملان "فتشريع المعاملات تشريع عبادات في مستوى غليظ وتشريع العبادات تشريع معاملات في مستوى رفيع والمقرر أنّه ليس للعبادة قيمة إن لم تنعكس في معاملتك الجماعة" (الرسالة الثانية ص 100). وفي إطار هذا التوحيد تقوم حرية الجماعة شجرة ثمرتها الحرية الفردية.
2. علاقة الفرد بالكون في الإسلام:
إنّ الفرد في الإسلام لا يكون إلاّ حرًّا "فالإسلام يرى أنّ الأصل في الحرية الإطلاق" (الرسالة الثانية ص 101) وإنّما كان الإسلام مقرًّا بالحرية المطلقة لأنّه "لا يرى في ترقي الفرد حدًّا يقف عنده، فهو عنده (الإسلام) ساير من المحدود إلى المطلق" (الرسالة الثانية ص 101) فالإنسان في تطوره نحو الأرقى، إنما يسعى دوما إلى التخلص من القيود والخوف إلى الحرية المطلقة أو بالأحرى إلى العبودية. ولا يفهمنَّ من كلام طه المعنى الشائع للعبودية بما هي سلب للحرية، العبودية عند طه "كالربوبية لا تتناهى لم يحققها إلاّ الأنبياء" (رسالة الصلاة ص 245) ولعلّه لا يمكن أن نفهم مفهوم العبودية عند طه إلا بالرجوع إلى الفكر الصوفي الذي يمثل رافدًا من روافد فكر طه. فالعبودية تصبح بهذا المعنى اتحادًا بالله وخروجًا من الجهل إلى العلم، من الشقاء إلى السعادة. ولا تكون الحرية عند طه إلا واعية مقترنة بحسن التصرف، فإذا ما حاد الإنسان عن السلوك السويّ صودرت منه. وهذا الفهم استخلصه طه من قصّة طرد ﺁدم. فقد كان في البدء حرًّا حرية مطلقة حتى امتحنه الله ليرى كيفية تسييره لهذه الحرية، فلما حاد بالحرية عن الصراط ولم يحسن الاختيار سلبت منه. ومن هنا نخلص إلى أنّ علاقة المسلم بالكون تقوم على أساس مفهوم الاستخلاف أي تحمّل المسؤولية في الكون قصد تعميره ولا يكون الاستخلاف إلا بالحرية المطلقة التي نصّ عليها الإسلام دون الفلسفات الغربية ذلك أنّ الإسلام "سلام الإنسان مع نفسه" (الرسالة الثانية ص 138) ومع الكون ومع خالقه. فتقوم بذلك علاقة المسلم بالكون لا على الخصومة والمصاولة، وإنّما على الانسجام والتـآلف ليستحيل الكون فضاءً لمغامرة الإنسان يعمره تحقيقًا لخلافة الله على الأرض.
ويمكن من خلال هذا أن نستنتج أنّ الحلّ كامن في الإسلام حسب طه لكن ما المقصود بالإسلام؟ أهو الإسلام كما يمارس ويفهم الآن أم هو فهم مخصوص يحاول طه توضيحه؟ وكيف يمكن حسب هذا الفهم المخصوص أن نحقق إنسانية الإنسان وسلامه مع ذاته وكونه وخالقه؟