إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
(5)
يعتبر الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) من طلائع الأجيال التي شهدت بدايات تشكيل ملامح الدولة "المؤسسة" في السودان وعايشته بحلاوته ومراراته ، ففي بواكير القرن العشرين أثناء فترة الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري تم تدشين مؤسسات التعليم الحديث: كلية تدريب المعلمين والقضاة بأم درمان عام 1900م، ومدرسة الصناعة بأم درمان وكلية غردون التذكارية عام 1902م، والمدرسة الحربية (مدرسة الخرطوم الحربية) عام 1905م، ومدرسة كتشنر الطبية عام 1924م. والمعهد العلمي بأم درمان الذي أنشئ على غرار الأزهر عام 1912م. في الوقت الذي كانت فيه الكثير من دول أفريقيا ترزح تحت بؤس إستغلال الإستعمار ، فقبل هذا التاريخ بقرنين دخلت فرنسا أفريقيا مستعمرة السنغال بالحديد والنار ، إستنفدت قدرات هذا الشعب الذي خضع وخنع لها طيلة ثلاث قرون عجاف ، دون أن تنظر إلى الإحتياجات الأساسية لهذا الشعب . ففي ذات التاريخ الذي تم فيه إفتتاح هذه المؤسسات التعليمية سابقة الذكر في السودان كان الفرنسيون يحتفلون باطفاء الشمعة المئتين لهم في السنغال دون أن يفتتحوا حتى مدرسة ثانوية ، وبالتالي يكون السودان سبّاق في مضمار التعليم الحديث في المنطقة – بعد مصر- وكان الطلاب الذين عايشوا هذه الفترة هم جيل محمود محمد طه الذي كان داعياً أخلاقياً دينياً اجتماعياً أكثر منه داعياً سياسياً ، فجميع كتاباته تدعو إلى نقد الذات ومراجعة النفس والصدق مع البسطاء (الشعب)، إن النقد الذاتي فالجهاد الذاتي فالتربية الذاتية هي الأطوار الثلاث التي ينادي بها الأستاذ محمود عبر كتاباته لعملية تغيير الإنسان تغييراً خلاّقاً ، ولا يجتاز الفرد هذه الأطوار منعزلاً عن الآخرين بل ملتزماً معهم بالصراع الطبقي . ويكون قطاف هذا التغيير إنفجار طاقة خلاّقة وإنبثاق وجدان سامٍ يسهم كل طور من الأطوار الثلاثة في تكوينهما ، فالأطوار الثلاثة هي مقومات أساسية ، ولحظات متكاملة في عملية إعادة تربية الذات تربية دائمة ، ولا تستقيم العملية إلا إذا جرت في خضم الصراع الطبقي ، وإلا تعرض الإنسان لعواصف هذا الصراع وأمواجه . وتبدو هذه الأطوار للتربية الذاتية وكأنها مقامات صوفية إجتماعية أو مراتب مثالية دينية أكثر منها قوانين نمو حتمية لأيديولوجية علمية كالأيديولوجية الماركسية التي كانت متفشية في ذاك الزمان .
ونحن في قراءتنا لسيرة الأستاذ محمود أحد رواد الفكر السوداني الحديث ، لا ننسى العوامل التي تضافرت وساهمت في تشكيل فكر وشخصية هذا الرجل سواء العوامل الخارجية والتي تتمثل في تأثير الإستعمار الأجنبي عبر مؤسساته سواء الأكاديمي أو الكنسي ، وما أفرزه من جبهات نضال والتي بدورها ألهمت تيارات ثقافية أثّرت في تغيير منحى الثقافة المحلية السودانية ، أو العوامل الداخلية ، كما هو ماثل في تأثير الثورة الدينية الصوفية المتمثلة في الثورة المهدية وما أفرزته من معان سامية لتجسيد معنى النضال والإستبسال في سبيل الوطن والدين ، وكم أسهمت في رفع القيم والأخلاق لدى الجيل الذي خَلَفَهَا وهو جيل محمود محمد طه الذي وجد نفسه وجها لوجه مع المستعمر الغاشم ، هو ذات الدخيل الذي قتل الإمام المهدي وأنصاره الذي فتك بأبناء البلد قبل عقد ونيف فقط من ميلاده ، هو ذات السلاح الذي أنهى خلافة عبد الحميد الثاني – خليفة المسلمين – وأنهى بذلك آخر خلافة اسلامية في تركيا (الخلافة العثمانية) ، هو ذات المستعمر الذي جاء بلباس آخر ، إذ يحمل بيدٍ سيفاً وبندقية وفي اليد الأخرى صليب وصولجان . لذلك كان محمود محمد طه قاسياً مع كل من ينتهج النهج الإسلامي "المزيّف" ويجعل منه معبراً سهلا للسلطة و سلّما يرتقي به إلى سماوات القصور الرئاسية .
لقد قرأ الأستاذ محمود المستقبل البعيد لهذا البلد وسبر أغواره وأراد أن ينقل معرفته الى معاصريه ، إلا ان من عاصروه لم يمنحوه الفرصة اللازمة ولم يمنحوا الشعب كذلك الفرصة للتعرف عليه كما ينبغي. فقد حُجبت المعلومات اللازمة من الناس عامة والشعب السوداني خاصة. ومن سخرية القدر أن لحق بتلامذته ومريديه الذين عاصروه ذات اللعنة التي لحقت بالحركة الإسلامية السودانية في بواكير عمرها والمعروفة تاريخياً بفترة الكمون الأولى وهي الفترة التي ركنت فيها الحركة الإسلامية وعزفت عن العمل الجماهيري وآثرت الكمون والإستتار خوفا من أن يلحق بها ما لحق بالحركة الإسلامية في مصر من تقتيل وتنكيل وتعذيب على يد عبد الناصر آنذاك . حقاً ان التاريخ يعيد نفسه .
لقد تعرضت صورته للتشويه عبر الزمان وحصل هذا عن قصد لتجهيل الجماهير وتغييب وحجب الحقيقة عن الأجيال القادمة بل إن صح التعبير تحريف التاريخ وممارسة سلطة قمعية إستبدادية أبوية لغسل أدمغة الشباب قادة المستقبل . وقد تم إصدار قرار رسمي من الجهات العدلية والقانونية والشرطية بإيقاف وحظر نشاط الجمهوريين ومصادرة جميع كتبهم ومنع تداولها بين الجمهور ، كما صرّح بذلك رئيس محكمة الاستئناف حينها المكاشفي طه الكباشي بعد تنفيذ حكم الإعدام على الاستاذ ، واضاف أيضاً : (..أنه فيما يختص بأموال محمود محمد طه فانها ستكون فيئاً للمسلمين..) عن الصحافة 21 يناير 1985م . ولكن ليس بالغريب أن يتم تجاهل الأستاذ محمود محمد طه وطمس حقيقته ، سواء ما كان ينادي به حقيقة صادقة نابعة من صفحات ناصعة البياض تكاد تكون من عند الله ، أو ما أتى به ليس إلا زندقة وكفرٌ صريح ألقى بها عليه الشيطان ليغويه هو وقبيله ، لقد تجاهله معظم معاصريه من طلائع المتعلمين عندما كتبوا مذكراتهم وسيرهم الذاتية وأغفلوا ذكر إسمه ، وحجبوا نضاله وجهاده ضد المستعمر ، ليس نسياناً ولكن جُبناً وخيانة منهم ، إلا النذر القليل . من هذا المنطلق رصدنا أقلاما بعضها يرى أن محمود محمد طه ليس إلا فتنة ونبتة فاسدة يجب بترها وهؤلاء ينتمون الى "الإخوان المسلمون" ، وفريق يرى بحرية الرأي والتعبير ، وأن الأطروحات التي تنصب في بوتقة "الاعتقاد" و "التفكير" وما هو بين الصدور ، حق مكفول لكل إنسان سواء جهر به المرء او أسرّ القول به . مرتكزين في ذلك على ان أولى مباديء الاسلام أنه لا إكراه في الدين ولا سلطان لأحد ولا حتى النبي على عقيدة الناس وإعتقادهم ، ولا يسيطرون على معتقداتهم ، كما لا يجوز له إلزامهم باعتناق الاسلام . فحرية العقيدة هي وحدها التي لا تخضع للسلطة . هذا إذا سلمنا جدلاً أن الاستاذ محمود "فاسد" الإعتقاد . ولكن إذا نظرنا لهذه المسألة من زوايا أخرى فاننا نرى صورة أخرى مغايرة تماماً وربما تجعلنا نُرجع البصر كرتين في التاريخ السياسي السوداني من منطلق أيديولوجي ، فالحركة الاسلامية السودانية كانت ولا زالت تناقض نفسها بنفسها ، فحسب ما سطره أساتذتها ومعلموها الأوائل بأن الحركة لم تهتم بالجانب الفكري حتى لا تقع في شراك الحركات التي لقيت حتفها جراء التنظير والفلسفات المعارضة واكتفت بنصح منتسبيها وتوجيههم لكتب وكتابات لأسماء بعينها ، نجدها قد وقعت في وهدة تناقضها ، لأنها بذلك قد ثبّتت ضمنياً أن لا وجود للعقل ولا وجود للحرية (بمختلف معانيها) في دستورها المبني على الكتاب والسنة ، وهذا مخالف لجوهر الدين الاسلامي ومخالف لما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، لأن الدين الاسلامي (دين محمد) مبني على التسامح والمحبة والشورى وعلى حرية الاعتقاد والتي هي الأساس ونجدها حاضرة في القرآن الكريم في أكثر من آية منها "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا . أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" صدق الله العظيم . إن وهدة التناقض (الدين/السياسة) الذي وقعت فيه الحركة الاسلامية منذ بدايتها وجعلت منه منهاجاً لها فيما بعد أنها كما يقول عبد الرحمن الكواكبي قد وضعت "للإنتهازية عنواناً من الدين ، وقدّمت للظلم تبريراً من الآيات ، وأعطت للجشع أسماء من الشريعة ، وأضفت على الإنحراف هالة من الإيمان ، كما جعلت سفك الدماء ظلماً وعدواناً عملاً من أعمال الجهاد". لقد تم مصادرة "الاسلام" من قبل الفئة المتأسلمة ، وأصبح الجميع غرباء بلا هوية ، وأصبح الاسلام هوية لا تُمنح للغرباء إلا بعد إستوفاء شرط (الإندماج) أو (التكيّف) أو شهادة (تأهيل) للشخص المعني ، اي الولاء ثم الولاء . كما أصبحت كلمة (كافر/مرتد) مشاعة سهلة طرية ، رطبة في اللسان ، يلفظ بها كل من هو "مُعمعَم" ومُتدثَّر برداء السلطة .اهـ
إقتباس
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده، طوبى للغرباء، فقيل من الغرباء يا رسول الله، قال أناسٌ صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسند احمد بن حنبل.