إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
(1)
إننا في هذا الوطن العربي العريض ، برغم الاختلاف والمغايرة ، برغم السحنات المتباينة ، لازلنا نتقاطع في نقاط نتشاركها جميعاً هي ليست سوى هموم جاثمة على كواهلنا دهوراً . إذ نعتاش ونتعايش مع فتاوى تنزف دماً . شيوخ "إسلام" يشرعنون بتعاليم دين "التسامح" والرحمة ، حكام يتبنون "القتل" ليكون الدواء الناجع لحسم الخلافات الفكرية إلى غير رجعة .. مرجعيات دينية لا تتردد في مقايضة ضمائرها بثمن بخس مقابل الظفر برضى الحاكم ، الرأي الآخر بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة ينبغي أن تغتال في مهدها . لم ينصتوا يوما إلى نبي الإسلام حين قال "إن هدم الكعبة حجراً حجراً أهون من سفك دم مسلم" لم يفتشوا جيداً في "الحقائق الغائبة" للدين الإسلامي ، لأن الغرض كان وما يزال تصفية الأعداء والخصوم السياسيين ، بإسم الدين نفسه . فتاوى للقتل يفوق عددها المئين بمبرر "الدفاع" عن حرمة الإسلام . لم تصدر عن محكمة شرعية أو هيأة قضائية أوامر صارمة بالسفك على إمتداد التاريخ الاسلامي منذ كانت الخلافة "شورى" بين المسلمين . أصبح من العسير الوقوف على توصيف دقيق للمعنى الخاص لمرادف كلمة التطرف/الغلو ، إذ أصبحت الأنظمة الحاكمة في الدول العربية هي الراعية الحصرية بل الحاصلة على الملكية الفكرية لكلمة "التطرف" بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، متجاهلين في غيّهم هذا قول المولى عزّ وجل في محكم تنزيله لنبيّه الكريم : (إنما أنت مذكّر . لست عليهم بمسيطر) ليوضح له سلطاته كنبي ورسول ، أما بالنسبة للمتلقي "جمهور المسلمين" فخاطبهم بالتالي : (لمن شاء أن يتقدم أو يتأخر . كل نفس بما كسبت رهينة) تفصّل لنا الآية النزاع الدائر في جدلية "الجبر والإختيار" ، وأن كل شاة معلّقة من عرقوبها ، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للانسان الا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى . إن الاسلام لم يكن عقيدة فحسب بقدر ما هو "ثورة" فكرية حضارية اجتاحت المنطقة "الجزيرة العربية" ثم غزت العالم بأسره فيما بعد . إذ تمثّل رسالته أسمى معاني الحرية في الفكر والاعتقاد على حد سواء ، يقول المولى عزّ من قائل: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) صدق الله العظيم . من سخرية الأقدار – يقول المفكر محمد عابد الجابري - أن اشتكى أحد المثقفين الحداثيين في القرن الثاني عشر الميلادي من الاختناق الذي كان يسود البلاد المسيحية ومن اضطهاد رجال الكنيسة للمفكرين الأحرار مما جعله يفكر في الرحيل إلى أرض العرب ، حيث الحرية الفكرية مكفولة . يقول بيير ابيلار(Pierre Abelard) : "الله يعلم كم مرة فكرت ، تحت ضغط يأس عميق ، في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو الوثنيين (أي المسلمين) للعيش هناك في سلام ، دافعاً الجزية لأعيش مسيحياً بين أعداء المسيح". نقلاً عن– المثقفون في الحضارة العربية – (ص 28) إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية . والان ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرون نجمع أغراضنا وننسج الروايات الطوال ونحبكها جيداً ، لكي نستطيع اجتياز الأسئلة والحواجز التي تواجهنا عند بوابات المرور في المطارات الأوروبية والامريكية وذلك حتى يتسنى لنا الدخول – لأرض الخلاص - ليس لأي غرض سوى بحثنا الدؤوب لملاذ آمن نتنفس فيه الصعداء بالتعبير عن مكنونات دواخلنا بحرية وصدق . ولكي لا يمارس علينا احد سلطة "تفتيش النوايا" . حقاً ، لقد انقلبت الآية .
أردنا من خلال هذا العنوان (المثقفون والسلطة : بين محاكمات الرأي وإغتيال الفكر) أن نجتر مآسينا ونتلمس طريقنا بين ثنايا تشققات وتصدعات تاريخنا السياسي الحديث ، والتطرق الى بعض المواضيع التي شغلت الساحة السياسية والثقافية والإجتماعية على حد سواء . إنها مسألة التطرف الديني أو الغلو في الدين ، سواء من قبل السلطة أو من قبل بعض الطوائف . إذ لم تخلو الساحة في بلادنا خلال السنوات الماضية من الأحداث بنسب متفاوتة . مروراً بمختلف المحاولات التي تم فيها إستقصاد المفكر الإسلامي الدكتور الترابي بتكفيره تارة وتارات أخرى محاولة هدر دمه ، الى الأحداث التي شهدتها الساحة ابان الإنتخابات الأخيرة بين الطائفة السلفية واعتدائها على دار الحزب الشيوعي ، وآخرها الإعتداء الذي حدث في العيلفون للأضرحة الخاصة بالسادة الصوفية . أما على المستوى الحدث الأكبر فهو في عقد الثمانينيات عند مقتل المفكر محمود محمد طه .
(2)
لقد ظهر الباشمهندس محمود محمد طه أو (الأستاذ) كما يحلو لطلبته بمناداته في ثلاثينيات القرن الماضي كأحد رواد الحركة الثورية الفكرية في السودان التي تنادي بجلاء الإستعمار البريطاني المصري عن السودان ... وقد إصطدم في مشواره الحركي مع جميع الحركات والطوائف الموجودة في البلاد ، بمختلف توجهاتهم سواء أصحاب اليمين أم أصحاب اليسار . ان طبيعة السياسة في أي زمان ومكان مبنية بالأساس على المكائد والدسائس من جهة والخلاف والإختلاف والتنابذ من جهة أخرى ، وبالتالي كل الخلافات التي تنشب بين الخصوم سواء داخلياً أو خارجياً ، هناك دائما مخرج ومنفذ يسمح لأحد الأطراف بالتراجع ، إن لم يكن كلا الطرفين معا . هذا ما لم يعمل له الأستاذ خلال صولاته وجولاته السياسية ألف حساب .(.. لقد انطوى الحزب منذ نشأته على جوانب إيجابية وسلبية ، فقد أخرج دعوة الإستقلال من محيط المناورات وطموح السيد عبد الرحمن ، إلى نقاء العمل السياسي الحقيقي من أجل الاستقلال ، فألبسها دثارا ناصعا جعل منها دعوة يمكن أن تلهم جيلا بأكمله . كما أخرج العمل السياسي من دائرة المناورات والتكتيك ، إلى رحاب العمل الفكري القائم على البرنامج الملزم المحدد الجنبات والآفاق ... وكان لموقف الحزب الصارم ضد القوى ذات النفوذ في المجتمع ، أن فقد المرونة في الحركة ، في وقت كانت مثل تلك المرونة ضرورية لممارسة العمل السياسي ... إن أزمة الحزب الجمهوري ، أنه قائم على نقاء السريرة وصفاء الطوية ، دون أن يدرك أن ذلك النقاء وذلك الصفاء ، لابد لهما من مناورات وعمل تكتيكي ، يجعلهما قادرين على الحركة السياسية في واقع يصطرع بالمناورات والتكتيك ، وليس مجرد الإنكفاء على مُثُلْ وقيم رفيعة ... كما أقحم الحزب الاسلام في العمل السياسي ، وهو إقحام كان له ما يبرره من أجل إلهام الناس من تراثهم الاسلامي ، ولكن غاب عنه أن الاسلام في المعترك السياسي ، له ممارسات وتجليات أخرى ، استغلها حاملوه ورفعوا لها ألوية ، ولكنهم تستروا خلف تلك الألوية لإدراكهم أنها لن تجد قبولا من أصحاب الشأن في الدولة ..) . نقلا من كتاب "تاريخ السودان الحديث 1820م – 1955م" ص(495).الدكتور محمد سعيد القدال. الناشر مركز عبد الكريم ميرغني . يتبع