إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
(3)
وُلد الأستاذ محمود محمد طه في العام 1909م ، وبالتالي فهو قد عاصر وأدْ آخر خلافة إسلامية وهي الخلافة العثمانية "التركية" في العام 1924م على أيدي الإنجليز ، وبالتالي لا يستغرب أحد تلك النزعة الدينية المليئة حماسة وغيرة من جهة ، والكراهية الشديدة تجاه المستعمر وحلفائه من جهة أخرى ، وللأسف الشديد فإن من حلفاء المستعمر "بريطانيا" دول عربية إسلامية ساهمت في دك حصون الدولة الإسلامية الحاضنة "للخلافة" الإسلامية الرشيدة ، بل ما أزعج الأستاذ وأقض مضجعه تأييد بعض الطوائف االدينية بالسودان المستعمر والوقوف معه ونصرته ... لذلك إنتهج الأستاذ محمود هذا النهج الأخلاقي والذي مفاده : أن الدين ليس سلعة للإتجار "يُباع ويُشترى" فسلك مسلك التوسع في الدين للتثبت من الدراسات الدينية والقرءانية والوقوف على دراسة السنة الصحيحة والسيرة النبوية ودراسة حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ومقارنة كل ذلك مع الطروحات التي جاء بها دُعاة الإسلام الجُدد في ذاك الزمان ومقارنتها بالواقع المعاش. وكان هؤلاء الدعاة يتمثلون في حزب "الأخوان المسلمون" الذين كانوا أكثر الأحزاب مقتاً وعداوة للحزب الجمهوري ، وقد أصدر الحزب الجمهوري كتابين في العام 1968م أحدهما موسوم بـ(الدستور الإسلامي ... نعم/لا) والثاني (زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان الثقافة الغربية و الإسلام) إنتاش فيه الحركة الاسلامية وقادتها ، وقد إبتدأ كتابه بالتالي : (الإهداء إلى الشعب السوداني الذي لا تنقصه الأصالة ، وإنما تنقصه المعلومات الوافية .. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها) . وحقيقة لقد تضافرت جهود شتى لحجب الحقيقة وذر الرماد على عيون الشعب السوداني "المغشوش" بـ(الدين) والمشغول بالحراك السياسي ومهموم بلقمة العيش . لذلك لقد تبنت الاحزاب الطائفية (الدينية) هذا النهج في التعامل مع الشعب على مر السنين ونجحت في ترويض الجماهير وإلجامه ، بل وأكثر من ذلك ، إذ باسم الدين انخرط البسطاء من هذا الشعب من مختلف بقاع السودان من أجل إعلاء كلمة "لا اله إلا الله" بصدق ونية خالصة لوجه الله ، مضحّين بالغالي والنفيس . لا علم لهم بأن الأمر كله ليس لله في السياسة ، وأن لا وجود للأخلاق في هذا الحقل ، وأن جهدهم ومالهم ذهب سُدى يذروه الرياح ، وأن مبادئهم التي ظلوا ينادون من أجلها ودفعوا دمائهم وأموالهم ثمناً لها يمكن أن يُتخلى عنها وتُرمى في أقرب منعطف من منعطفات التاريخ ، مع ذلك لم تر الحركة الاسلامية أي حرج في تبني ذات النهج "النفعي" الرخيص في كسب ود الشارع السوداني ، ولكنها ذهبت أبعد من ذلك ، إذ قبلت راضية مرضية أن تعقد قرانها "باليسار". إن الدين كان ولم يزل الورقة الرابحة لكل سلطان أو طالب سلطة للظفر بألباب الشعوب . ومن الذي يستطيع أن ينبت ببنت شفة لمن هو قائل : ( القرآن دستورنا) ، لقد تعاملت الحركة الاسلامية بإزدواجية في المعايير والمبادئ منذ نشأتها ، إذ قبلت التعامل مع نظام النميري "الإشتراكي" في ذات الوقت الذي ترمي فيه بشرر ، "الآخر" ذو التوجه الاسلامي الصوفي . وقد تركت كتابات الأستاذ في ذلك الزمان أثراً في نفوس منتسبي الحركة الاسلامية . فمن بين جميع القوى والحركات السياسية الوطنية الموجودة في تلك الفترة لم تنشب خصومة ولا عداوة مثل ما حصل بين كل من الحزب الجمهوري والحركة الإسلامية . وهي تعتبر من الحروب السياسية الشديدة الضراوة والحساسية في تاريخنا السياسي والفكري .
(4)
بدأ الحزب بدعوة الرجال والنساء من عامة الشعب إلى تقليد محمد صلى الله عليه وسلم وبعث كلمة "لا إله إلا الله" في نفوس وصدور الجميع .. وحسب ظن الأستاذ محمود فإن هذه الكلمة لم تجد مكانتها لدى الناس سواء العلماء أو العوام البسطاء ، إذ حسب قوله لم يفهمها الجميع فهماً جيداً . كما يدعو إلى تجديد الدين للسمو بخُلق الناس وتصفية فكرهم ونفوسهم ، فالثورة الفكرية التي يدعو لها الأستاذ عبر الحزب هي الوسيلة الوحيدة أو الطريق الوحيد لخلق إرادة التغيير ، ويعني بالتغيير – التغيير إلى الحكم الصالح - وهو الحكم الذي يقوم في آن واحد على ثلاث دعامات من مساواة "إقتصادية وسياسية وإجتماعية" ، وذلك هو الحكم الذي يجعل إنجاب الفرد الحر ممكناً ، الفرد الذي يفكر كما يريد ويقول كما يفكر ويعمل كما يقول ، ثم لا تكون عاقبة قوله ولا عمله إلا الخير والبر بالناس والأشياء .
إن الأستاذ اتبع نظاماً معرفياً خاصاً انطلق منه لفهم الرسالة المحمدية وذلك اثناء الفترة التي اتخذ فيها خلوته ، وكما نعلم فإن الخلفية العقلية الفكرية للأستاذ هي عقلية رياضية صرفة ، بالتالي يتعامل مع المواضيع – أي موضوع – بعقلانية بحتة و بمنهج تفكيكي ليصل إلى أصل الأشياء ، وهذا المنهج لا يمس ولا يقدح جوهر "الدين" في شيئ – حسب رأينا - إذا ما تم بحذر وعناية ، وإذا ما استوفى الباحث شروط التجديد/الاجتهاد . إذ أن "التجديد الديني" أو بلوغ مرتبة "الاجتهاد" يحتاج – بالضرورة – إلى معايير دقيقة قلّما تتوفر في شخص (واحد) في زماننا الراهن . إن عملية التجديد التي يسعى إليها الأستاذ محمود لإعادة تأسيس منهج إسلامي عصري أو فقه إسلامي معاصر تتطلب بالضرورة قراءات متعددة من زوايا مختلفة للكتاب والسنة كل على حدة ، يحتاج المرء فيه عبر قراءاته ، التنقيب في التراث والحفر عميقاً ونبش الماضي .. على أن يكون مستعداً لمواجهة ما يجده من حقائق مغيّبة (صادمة) وكيفية التعامل معها . أما بالنسبة للقرآن فليس هناك من يدّعي فهمه فهماً مطلقاً ، ولكي تتحقق مقولة "الاسلام صالح لكل زمان ومكان" يجب – بالضرورة – أن نختلف في فهمه (القرآن) نحن البشر أفقياً ورأسياً في مختلف الأزمنة والأمكنة ، أن نختلف في تأويله ، فما صلح منه – مفاهيمياً – في عصر ما ليس بالضرورة أن يصلح في عصر آخر ، ولا نقصد بـ(الصلاح) ذاك الصلاح المقابل للمفسدة بل (المواكبة) . لذا ، فإن كلام الله عزّ وجلّ "القرآن" مطلق في ذاته نسبي لقارئه ونسبيته تتبع تطور نظم المعرفة وأدواتها ، وهذا ما يطلق عليه ثبات النص في ذاته وحركة المحتوى لقارئه ، وهنا نعلم لماذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) ممتنعاً عن شرحه إلا في الشعائر فقط . فهل كان محمود محمد طه مستعداً لهذا المشروع ؟ هل تتوفر فيه الشروط التي ذكرناها ليستوفي شرط الإجتهاد/الإصلاح ؟ . نشك في ذلك .
يقال ان معرفة الدرب ليس كالسير فيه ، وقد بدأ الاستاذ محمود مشواره السياسي فسلك درباً طالما تاه فيه رجال ، وهو درب البحث عن "الحقيقة المطلقة" من خلال الدين. إذ أن الحقيقة التي يجب أن يعرفها الاستاذ قبل غيره وقبل ان يبذل أي جهد ، هي ان لا أحد لديه الاستعداد لمواجهة هذه "الحقيقة المطلقة" . فالناس تكذب كما تتنفس والدولة – أي دولة – قائمة على مبدأ (أكذب أكذب حتى تُكتب عند الشعب صِدّيقاً) . لقد راهن الاستاذ على مثاليته ... فخسر . بدأ الاستاذ دعوة للتغيير لوضع وتأسيس أركان "مدينته الفاضلة" التي يراها حسب فكره .. محاولة للتوفيق بين السياسة والدين (الكذب/الحقيقة) الأخلاق/المادة ، محاولة توفيقية بين دولة "المدينة" المستعصية على جميع الأجيال السابقة والتي يتنادى بها بعض الفئات والطوائف الآن ، وتشكيل قالب جديد لها في العصر الراهن في دولة السودان البكر وذلك بخلق مجتمع مثالي حسب رؤيته . يتبع