إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
هل كان نميري معجباً بمحمود محمد طه؟ (3-9)
الانتباهة بتاريخ 25 يناير 2013
عاش محمود محمد طه، زعيم الجمهوريين معظم حياته في حي شعبي من أحياء مدينة أم درمان، إحدى مدن العاصمة السودانية الثلاث. ولكن هذه البساطة البادية في مطالب العيش ارتبطت بعلو عظيم في مقامات ميتافيزيقية كان خياله يني يرنو إليها.
هل ادعى محمود الألوهية؟[ظH4]
وإذا كان معظم من زاروا ذلك البيت قد اندهشوا لمرآه، وأخذوا ببساطته الشديدة، وبساطة ساكنه، الذي لا يتكلف شيئاً في الحياة، ولا يتعلق به من اللباس إلا ما يرتديه سائر فقراء السودانيين من الزي الشعبي.
لكن راعهم ما رأوه، في حجرة الضيافة الملحقة بالمنزل، حيث كان الداخل يطالع أول ما يطالع، لافتات ثلاثاً، علقت على الجدار، كتب على الأولى منها ، قول الله تعالى: «وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً». وأما الثانية فقد كتبت عليها الآية الكريمة: «ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة». وعلى الثالثة كتبت الآية الكريمة: «وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً».
وأبدى بعض الزوار الملاحظة المرتابة بأن صاحب البيت، ربما كان يعني بتعليق هذه الآيات في بيته، وربما كان يؤمي أنه هو نفسه ذلك الإله الذي يأتيه الناس فرادى، وتخشع له الأصوات، وتعنو له الوجوه!
ظلت هذه الملاحظات تحير الناس كثيراً. كيف يتبنى هذا الرجل منهج البساطة الكاملة في المسكن والعيش، ثم يدعي العلو الكامل ويتشبه بالله والعياذ بالله من ذلك، وقد استبعد الكثيرون في الوقت ذاته أن يكون المقصود من تعليق الآيات في البيت هو ما استنتجه الأولون من إدعاء للألوهية من جانب محمود.
لم يقل صراحة إنه الله.. ولكن![ظH4]
إن محموداً لم يقل صراحةً في محفل عام إنه هو الله، كما لم يزعم في واحد من كتبه أنه قد وصل إلى مرتبة الإله، ولكنه لم ينف كذلك أن الإنسان يمكن أن يصبح زوج الله، بل أكد هذاــ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ــ حيث ذكر أكثر من مرة في كتبه أن الله خلق الإنسان من ذاته، مستدلاً بالآية الكريمة: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها»، وقال إن الله لم يخلق الوجود من عدم لأنه تعالى يقول: «أم خلقوا من من غير شيء أم هم الخالقون؟».
وزعم محمود أن الله ــ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ــ قد خلق هذا الوجود من ذاته، وأن ذاته هي الذات الواحدة، أو النفس الواحدة التي وردت في الآية. وذهب إلى أن الإنسان «في تطوره وترقيه ينقلب مرة ثانية ليلتحم بذات الله، ويرجع إلى أصله» واستدل بالآية الكريمة: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه» وبالآية الكريمة: «وأن إلى ربك المنتهى». «راجع: الإخوان الجمهوريون، عقيدة المسلمين اليوم، الخرطوم، 1983م، ص 51 54».
واستطرد محمود في كتاب «الرسالة الثانية من الإسلام» في حديث له عن مبدأ الطلاقة في الترقي والسمو الإنساني فقال: «وإنما كان الإطلاق في الإسلام أصلاً لأنه لا يرى لترقي الفرد حداً يقف عنده فهو عنده سائر من المحدود إلى المطلق، أو قل مسير من النقص إلى الكمال، والكمال المطلق. فنهاية العبد في الإسلام كمال الرب، وكمال الرب في الإطلاق، والله تبارك وتعالى يقول: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى» يعني منتهى السير ... وليس السير إلى الله بقطع المسافات، كما قلنا آنفاً، وإنما هو بتخلق العبد بأخلاق الرب، والله تعالى يقول: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه» أردت أو لم ترد لقاءه. وأين يكون لقاؤه، أفي أرضه ؟ أم في سمائه؟ لقد قال جل من قائل: «ما وسعتني أرضي ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن» إذن إنما تلقاه فيك وبه لا بك وفي قال المعصوم: «تخلقوا بأخلاق الله إن ربي على صراط مستقيم».
وهكذا نرى السعي الحثيث لإثبات ألوهية الإنسان، أو إمكانية ألوهية الإنسان. ولكن هل تكفي هذه الأدلة لإثبات ألوهية الإنسان؟! إن آية «خلقكم من نفس واحدة» لا تعني أن الإنسان خلق من ذات الله، فالله تعالى عن ذلك «لم يلد ولم يولد»، وإنما كانت النفس الواحدة هي نفس أبي البشرية آدم عليه السلام. وأما الآيات: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ... » إلخ، فهي لا تتحدث عن الترقي ولا عن الالتحام بالله، وإنما تتحدث عن الحساب والجزاء في يوم الدين، وكذلك آية: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه» فهي تعني أن الإنسان يتعب ويكدح في الأرض ثم ينقلب إلى الله في يوم الدين ليرى عاقبة كدحه في ذلك اليوم. وأما حديثا: «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ... إلخ و«تخلقوا بأخلاق الله» فهما حديثان موضوعان، وقد أنكرهما علماء الحديث، ولا يستطيع الجمهوريون أن يقدما لهما أصلاً من أي من كتب الحديث الصحاح.
وتحدث محمود عن إمكان الوصول إلى الإلوهية، في أعقاب حديث له عن القضاء والقدر، فقال إن النفس تصل، بعد أن تعرف سر القدر إلى «وحدة ذاتها»، و «ها هنا يسجد القلب، وإلى الأبد، بوصيد أول منازل العبودية، فيومئذٍ لا يكون العبد مسيراً، وإنما هو مخير، ذلك بأن التسيير قد بلغ به منازل التشريف، فأسلمه إلى حرية الاختيار، فهو قد أطاع الله، معاوضة لفعله، فيكون حيا حياة الله، وعالماً علم الله، ومريداً إرادة الله، وقادراً قدرة الله، ويكون الله».
«راجع: محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الإسلام، الخرطوم، 1967م، ص 39 ــ40».