إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
هل كان نميري معجباً بمحمود محمد طه؟ (2-9)
الانتباهة بتاريخ 24 يناير 2013
قضى محمود فترة السجن في التحنث والتصوف والإطلاع والتأمل الفكري، وكانت تلك الفترة هي نقطة التحول الكبرى في فكر زعيم الحزب، وبداية لاتصاله بالفكر الباطني خاصة فكر محي الدين ابن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي، المدعو بالشيخ الأكبر، صاحب الفتوحات المكية.
ثم أتبع تلك الفترة ، بفترة خلوة أخرى مدته ثلاثة أعوام، قضاها في مدينة رفاعة، وتمكن خلال هذه الفترة من مراجعة أفكاره السابقة، ثم قام بصياغتها صياغة جديدة وأطرها في منهج يزاوج بين العمل السياسي والفكر الصوفي.
التحول الفكري الانقلابي في الحزب الجمهوري
وفي أواخر سنة 1951م خرج محمود من عزلته ليواصل نشاطه العام من جديد، وكان أول ما بدأ العمل فيه أن دعا إلى افتتاح مدرسة للحديث النبوي، وكان يتجول بنفسه لجمع التبرعات، وكان مظهره وهو خارج من عزلته يشبه مظهر علماء الحضارات القديمة وحكمائها، حيث خرج بشعر كث، ولحية وافرة، وملابس رثة، ورأس عارٍ، وطفق يلقي على الناس أحاديث غريبة، ويحاورهم بمنهج لم يستوعبوه.
ويبدو أن مسألة مدرسة الحديث قد فشلت، أو أنه صرف النظر عنها، فاتجه إلى تأليف الكتب، وفي عام 1952م أنشأ أول كتب، وهو الكتاب الموسوم بـ (قل هذه سبيلي) دعا فيه إلى حكومة عالمية، ودافع فيه من جديد عن عادة الخفاض الفرعوني المستهجنة.
وفي عام 1955م، قبيل استقلال السودان، وإبان معركة الدستور وسؤال الهوية، واختلاف المشروعات المطروحة ما بين داع إلى دستور إسلامي، وآخر داع إلى دستور علماني، وما بين ذلك، حدد محمود تصوره الخاص في كتاب أخرجه بعنوان: (أسس دستور السودان) سجل فيه مقترحات كثيرة لأسس الحكم الصالحة، ولمعالجة مشاكل المجتمع السوداني في نواحي الاقتصاد والتعليم والاجتماع. وقد برزت ملامح الفكر الباطني لأول مرة ظاهرة في صياغات هذا الكتاب القانوني.
أقرب حزب إلى الشيوعيين
تصارع الحزب الجمهوري كثيراً مع الأحزاب المختلفة ، ومع نظام الحكم الوطني الذي جاء في عقب الإستقلال برئاسة إسماعيل الأزهر ، ثم الحكم الذي جاء عقبه برئاسة عبد الله خليل، ولم يمهل الضباط هذه الصراعات طويلاً إذ استولى حزب الجيش على السلطة برئاسة قائد الجيش الفريق إبراهيم عبود، فحل الأحزاب، وحكم حكماً مطلقاً لمدة ستة أعوام ما بين 1958 و1964م.
وفي خلال تلك الفترة أعفى الحزب نفسه من مشقة الصدام السياسي مع العسكر، وانصرف إلى التكوين الداخلي والدعاية العامة، ونشر الفكر بالندوات والمحاضرات من غير ما تماس مع نظام الحكم، وأصدر في تلك الفترة – 1962م – كتاباً جديداً يؤصل فيه لملامح فكر الحزب، بشكل أوضح وأصرح ، وهو كتاب (الإسلام)، وقد سمع الناس لأول مرة في هذا الكتاب أن الإسلام رسالتان، وأن الحرية في الإسلام مطلقة لا قيد عليها ، وأن الإسلام دين يدعو إلى الإشتراكية التي تصل إلى الشيوعية العامة في كل شئ.
وقد ذكر المفكر الماركسي البروفسور سمير أمين أن اشتراكية محمود محمد طه هي الدعوة الإشتراكية الأقرب إلى الشيوعية، وقال :" إن الاشتراكية وفقاً لمحمود محمد طه هي رديفٌ لتمكُّن البشر جميعهم من أخذ نصيبهم المتساوي من الثروة المادية التي استطاعت أن تنتجها عبقرية الإنسان. وبذلك، فإن هذا التعريف يجعله في واقع الأمر أكثر قرباً لمفهوم الشيوعية من تجارب وبرامج الاشتراكية التاريخية الحديثة". من تقديمه للترجمة الفرنسية لكتاب (الرسالة الثانية من الإسلام).
Mahmoud Mohamed Taha Un Islam à vocation libératrice
Un Islam à vocation libératrice
Traduit par Mohamed El Baroudi & Caroline Pailhe
L'Harmathan, Paris ,2002
معارك الحزب مع الفقهاء
وفي سنة 1964م أعلنت الهبة الشعبية العامة، وأعلن الإضراب المدني، وأهتزت أركان العسكر ، وانهارت سلطتهم على أيدي المدنيين، وعادت الأحزاب من جديد إلى العمل العلني ، وحينذاك تفرغ محمود تماماً للعمل الحزبي، وتخلى نهائياً عن مهنته في العمل الهندسي، وظهرت كتب كثيرة تحمل اسمه بالإضافة إلى سيل من المنشورات والبيانات السياسية والفكرية باسم الحزب.
خاض الحزب الجمهوري معارك شتى مع علماء الدين، وبعض أساتذة الشريعة والفقه بالجامعات. وانشغلت صفحات كثيرة من الصحف بهذه المعارك والحملات، وردود الفعل من الطرفين ، وكان الحزب الجمهوري قوياً في دفاعه عن أفكاره، وإن كان ذلك الدفاع لم يقنع الكثيرين بالإتفاق معه أو تبني هذه الأفكار.
وكان من أبرز الجمهوريين تلك المعركة التي استعرت بعد إقامتهم لمحاضرتهم المشهورة بعنوان: (الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين)، والتي طبعت من بعد في كتاب، وقد استنكر الكثيرون محتويات المحاضرة، لمجرد قراءة عنوانها، إلا أن الذين استمعوا إليها، أو قرأوها مكتوبة، فجعوا بما هو أكثر من العنوان.
فجعوا بتفاصيل فهم مغاير تماماً للإسلام يتهم تشريعات إسلامية كثيرة بالرجعية والتخلف والقصور عن مجاراة التطور الإنساني عبر القرون الأخيرة . وقد جرجرت تلك الأفكار المثيرة، زعيم الحزب إلى ساحة القضاء الشرعي حيث رفعت ضده دعوى حسبية في 1968م، بوساطة عالمين من علماء الشريعة، اتهماه فيها بالردة عن الإسلام، وطالبا بتنفيذ حكم الله عليه بعد ثبوت الردة، بإغلاق دار حزبه، وإعلان بيان للناس لتوضيح رأي الدين في أفكاره، ومؤاخذة من يعتنق مذهبه بعد هذا الإعلان، وتطليق زوجته المسلمة منه، والعفو والصفح عمن تاب، وأناب، وعاد إلى الإسلام.
وقد نظرت المحكمة الشرعية العليا برئاسة القاضي توفيق أحمد الصديق في هذه التهمة ، وأصدرت حكماً غيابياً في 19 / 11 / 1968م بارتداد محمود محمد طه عن الإسلام، واكتفت بذلك الحكم صارفة النظر عن البنود الأخرى في دعوى الحسبة.
جاء الحكم القضائي الشرعي في غير مصلحة الحزب، إلا أن فقدان القضاء الشرعي لصلاحية الأمر بتنفيذ ما ترتب على ذلك الحكم، جعل الحكم وكأنه في مصلحة الحزب ، إذ اكتسب عطف الكثيرين من المثقفين والليبراليين كما بدت المحكمة وكأنها محاكمة فكر ، وكان لقرارها أصداء واسعة في المجتمع السوداني ، إذ انتشر محامون كثر في أفق الصحافة والثقافة ، يدافعون عن الجمهوريين وعن أفكارهم ، وإن لم يكونوا موالين له ، وتشجع الجمهوريون أكثر بعد الحكم فواصلوا إصدار نشراتهم وكتيباتهم مصعدين حملتهم ضد علماء الشريعة ، وضد القضاء الشرعي ، ودعوة الدستور الإسلامي .
حملة الجمهوريين على الدستور الإسلامي
كانت حملة الجمهوريين ضد الدستور الإسلامي الذي كان مطروحاً للمداولة في البرلمان في ذلك الوقت، من أقوى حملاتهم، فقد انحازوا بكل قوتهم إلى القوى المناوئة لدعوة الدستور الإسلامي الذي كانت معظم الأحزاب (عدا الحزب الشيوعي، وبعض أحزاب الجنوب) قد اتفقت عليه. وقد أثار الجمهوريون دعوى (السلفية) و (الرجعية) وألصقوها بمقترحات الدستور الإسلامي، داعين إلى دستور الرسالة الثانية التقدمي المنفتح الذي يساير ويستوعب أطروحات وقضايا العصر الحديث كما يقولون، وقد ظلت تلك المعركة محتدمة إلى أن انحسم أمرها بإستيلاء الضباط على السلطة في 25 مايو سنة 1969م، وانحسم بذلك أمر العمل السياسي الليبرالي حيث توجهت البلاد في انعطافة قوية نحو اليسار ، وقد حلت حكومة الإنقلاب اليساري الحزب الجمهوري، ضمن مجموعة الأحزاب التي حلتها، ولكن سمحت له كما سمحت للحزب الشيوعي أن يعمل من دون إشهار اللافتة الحزبية.
التحالف مع نظام نميري الباطش
وتلاقت مصالح الحزب الجمهوري استراتيجياً بتوجهات نظام نميري العسكري ضد النظام الحزبي، ونشأ تحالف عير معلن بين نظام نميري والجمهوريين، برره محمود بقوله إن نظام نميري:" مرحلياً هو أحسن النظم المرت على البلد، وبخاصة لأنه قدر بقمع الطائفية، ويفوت عليها الفرصة في أن تضلل الشعب، لتجيب ليهو دستور إسلامي، وما هو دستور إسلامي، وإنما هو تضليل باسم الإسلام في مستوى السلطة، وفي مستوى العقيدة .. فلمّن كان قريب أواخر سنة 69 كان السيد الهادي يقول: " إذا كان لغاية أغسطس ما مر الدستور الإسلامي - الجمعية التأسيسية ما مررت الدستور الإسلامي سنمرره باستفتاء شعبي" .. ومعروف سلفاً أن الشعب بسيط مضلل باسم الدين وهو عنده أكثر من نصه ، فإذا الإستفتاء الشعبي أن يكون الدستور الإسلامي زي ما حاصل في إيران مثلاً .. في مايو جاء نظام نميري، ونحن من الأول أعلنا تأييدنا ليهو على أساس أنه قطع على الطائفية طريق الإستحواذ على السلطة في البلد (لقاء صحفي مع صحيفة القبس الكويتية)، مايو 1981م .
وقد استمر هذا التحالف غير المعلن نافذاً حتى تبنى نظام نميري أطروحات القوانين الإسلامية والدستور الإسلامي فاستحال التوفيق بيت الطرفين.