إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الرسالة الثانية من الإسلام، أو الدعوة الإسلامية الجديدة، كلاهما إسم جديد للـ(الفكرة الجمهورية) التي صارت ومع مرور الوقت بديلا لإسم (الحزب الجمهوري). وأول ما يستحق القول هنا هو أن الدعوة للإسلام لا تعني من قريب أو من بعيد الدعوة لحكم الشريعة الإسلامية! لقد قامت الدعوة الجمهورية –أول ما قامت- على فهم جديد للإسلام استلهم قيم الدين، ونفث الروح في طقوس العبادات، وطوّر التشريع الإسلامي الذي طبِّق على مجتمع القرن السابع الميلادي!
من قراءته للشريعة الإسلامية صدح الأستاذ محمود بأنها ليست (ديموقراطية) ولا (إشتراكية)، ولكنه هو داع للديموقراطية وللاشتراكية، وهو يرى أنهما مبذولتان في أصل الإسلام(الدين) الذي تعتبر الشريعة الإسلامية فرعه الذي نزل للناس في القرن السابع ليستوعب طاقاتهم وحاجاتهم..لذا فإنه وفي ظل الفهم الجديد للإسلام تتخلف كثير من الفروع عن معاملات اليوم.. يقول في ذلك الأستاذ محمود محمد طه:
(أول ما تجب الإشارة إليه هو أن الشريعة الإسلامية ليست هي الإسلام، وإنما هي المدخل على الإسلام.. هي طرف الإسلام الذي نزل إلى أرض الناس منذ أربعة عشر قرنا، وهي في بعض صورها تحمل سمة "الموقوتية" وهي من ثم قابلة للتطور، وهي في تطورها تنتقل من نص فرعي، في القرآن، تنزل، لأرض الناس من نص أصلي. وقد اعتبر النص الأصلي منسوخا، بمعنى أنه مرجأ إلى يومه، واعتبر النص الفرعي صاحب الوقت، يومئذ. فتطور الشريعة الإسلامية، في بعض صورها، إذن، إنما يعني انتقالها من نص، إلى نص، في القرآن.. فآية السيف، وأخواتها ليست، في الإسلام، أصلا وإنما هي فرع.. وقد تنزل الفرع، عن الأصل، بفعل الضرورة، ليكون قريبا لأرض الناس، حتى ينقلهم، على مكث، إلى الأصل.. فالأصل هي الآيات المنسوخة والفرع الآيات الناسخة.. فإذا كنا نتحدث عن الشريعة الإسلامية فيجب ألا نزج بآية لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي إلا إذا كنا ندعو إلى أن تتطور الشريعة، من آيات الإكراه، إلى آيات الاسماح. وهو أمر لا يدعو إليه، بل ولا يعقله دعاة الإسلام عندنا، إلى الآن. وهناك أمر خطير يجب تقريره هنا، وهو أن الشريعة الإسلامية ليست ديمقراطية، ولا هي اشتراكية، وإنما هي تقوم، في السياسة، على آية الشورى، وهي آية حكم الفرد الرشيد، الذي جعل وصيا على قوم قصر، وقد طلب إليه أن يحسن تربيتهم، ورعايتهم، وترشيدهم ليكونوا أهلا للديمقراطية. ويومئذ تتطور شريعتهم لتنتقل من فروع القرآن إلى أصوله - من آية الشورى إلى آيتي( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر) فتكون بهذا التطوير أدخل في الإسلام من سابقتها. أو قل منها قبل أن تتطور. ومثل هذا يقال عن الاشتراكية، فإن شريعة الإسلام الحاضرة ليست اشتراكية، وإنما هي رأسمالية، أريد بها أن تكون مرحلة تسير الأمة السالفة إلى منازل الاشتراكية. ويومئذ تتطور الشريعة الحاضرة، بأن تنتقل من فروع القرآن إلى أصوله - من آية الزكاة الصغرى الفرعية) خذ من أمولهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم) إلى آية الزكاة الكبرى الأصلية) يسألونك ماذا ينفقون قل العفو). ففي الشريعة الحاضرة ليست هناك ديمقراطية ومن ثم ليس هناك دستور إسلامي.. وكل حديث عن الدستور الإسلامي من الذين لا يرون تطوير الشريعة الإسلامية إنما هو جهل مزدوج - جهل بالإسلام، وجهل بثقافة العصر.. وهو ما يقوم عليه أمر دعاة الإسلام عندنا. ونحن نحب أن نقول لهم في ختام هذه المقدمة أنكم إن لم تفهموا حقيقة الإسلام، وطبيعة ثقافة العصر الحاضر، فمن الخير أن تكفوا عن الدعوة إلى الإسلام.. وإلا فإنكم تحملون وزر تعويق الدعوة إليه بجهالات تحاولون أن تلصقوها به، وهو منها براء.. وستكون حصيلة محاولتكم تأخير قافلة الدعاة الحقيقيين بعض الوقت. وبحسب المرء من الشر أن يعوق بجهالته، دعوة الخير، ولو لحظة واحدة، وهو يعلم.)
السودان قطر متعدد الأعراق والأجناس والثقافات والأديان، وهو الأكبر إفريقيا من حيث المساحة، والرابع من حيث المكان، وهو أكبر الأقطار العربية في اسيا وإفريقيا، وثاني دولة عربية من حيث السكان والسادس افريقيا(حتى تاريخ كتابة هذه المقالة). ذُكر السودان في الكتب الدينية القديمة، وفي التاريخ القديم، وكذلك في الأساطير الإغريقية. وشهد هجرات كثيرة من الشمال والشرق والغرب والجنوب، ولكن حدوده الحالية التي تكاد أن تبلغ (مليون ميل مربع) ورثها من الاستعمار الإنكليزي المصري(1899/1956)، وإن كانت مقاربة –نوعا ما- لحدوده المعروفة في عهد الحكم التركي(1821/1885). عرف السودان هجرات العرب الى أراضيه من قبل الميلاد، وعرف استقرارهم أيضاً كجماعات صغيرة وأفراد لجأت لعدل حكامه (النوبة) ووجدت في أرضه مستقراً وسعة.
عندما أراد المسلمون فتح بلاد السودان بالجيوش كانوا قد خالفوا بذلك نصاً نبويا بعدم التعدي على (الأحباش) وأن يتركوهم ما تركوهم، ولهذا فإن جهودهم في فتح السودان قد ضاعت سدى ولم تفلح تلك الحروب سوى في تخليف اتفاقية (تبادل تجاري) بين البلدين. وبعد حوالي الألف عام من تلك الإتفاقية تكونت أول مملكة اسلامية في بلاد السودان وهي (مملكة الفونج) (1505/1821). في تلك الكونفدرالية الجديدة- التي جاءت بعد عهد من الفوضى اكتنف المملكة المحتضرة مملكة (علوة) (حوالي 900م-1505م)- بسط ملوك الفونج سلطانهم السياسي، ولكنهم وجدوا سلطة أخرى سبقتهم وتكبرهم شأنا، وجدوا سلطة السادة (الصوفية) قد ضربت بجذورها في حياة المجتمع المسلم، فصانوها ورعوها وحفظوا لهم شأنهم وقدرهم، لعلمهم بنأيهم عن السلطة، وشغلهم بأمر أنفسهم وتربية "حيرانهم".
دخل مشايخة الطرق الصوفية للسودان بصورة فردية وانشأوا فيه الخلاوى للتدريس والتربية، ورغم اختلاف الطرق الصوفية من حيث النشأة الا أنهم قد اجتمعوا جميعا على احترام بعضهم البعض وتوقير الشيخ لرفيقه في الدرب وإجبار حيرانه على احترام شيخ الطريقة الأخرى وحيرانه. وذاك ليس بأمر غريب اذا علمنا أن التصوف يعني عند أهله (الأدب) و(التأدب)، حتى صارتا كلمتين تحلا محل بعضهما البعض (التصوف والأدب).
هذا الأدب، وتلك التربية، وذاك الفكر، قد كان مرعيا من قبل الدولة التي تركت أمر التعليم والقيادة الإجتماعية للمتصوفة وهو أمر استمر حتى دخول الاستعمار التركي في العام (1821) فبسط سلطته السياسية والاجتماعية والتعليمية على المجتمع فكان من الطبيعي جدا أن يخرج من المتصوفة بعد (أربعين عاما) من حكم الأتراك رجل متصوف يدعي المهدية ويحارب المسلمين عليها، ويمنع المتصوفة من تأدية شعائرهم الدينية، ويبدأ دائرة جديدة من الحكم الديني المتسلط وينجح في اقامة الدولة المهدية بأرض السودان(1881/1885-1899). وهناك نقد كثير يمكن أن يقدم لحركة (محمد أحمد المهدي) (1841-1885) سياسيا وفكريا ودينيا، ولكن أهم ما يستحق القول الآن إنها قد كانت نتاجا طبيعيا لضعف التربية الروحية والتأدب، مما جعل تلميذ الأمس يحارب مشايخته وأساتذته المسالمين ويأخذهم أسرى!!
وكما حدث في العهد التركي، حدث مثله في عهد الحكم الإنكليزي المصري، أدخلت الدولة نظاما تعليميا يقوم على المعارف الطبيعية، وميزت التعليم الديني عن التعليم المهني، وجعلت القوانين المطبّقة على السودانيين قوانين وضعية، وجعلت القوانين الدينية في ما يسمى بـ(شريعة الأحوال الشخصية) وجعلت لها قضاة شرعيين يقومون بها، والأعجب أنها وجدت من يرضى أن يحصر دينه في ما يحدده له من لا ينتمي لدينه!! هذه الشريحة (القضاة الشرعيون) كانت سببا مباشرا لأمرين (نفور الأذكياء من الدين) و(هروب آخرين للهوس الديني) عندما رأوا تناقض الكبار وضعة نفوسهم.
عندما ظهر الأستاذ محمود بفكرة الرسالة الثانية من الإسلام، نادى بتطوير شريعة الأحوال الشخصية، وأعتذر عن قبوله لحالة ما كانت لتكون لولا جمود رجال الدين:
(ونحن نرى أن اسم هذا الكتاب: تطوير شريعة الأحوال الشخصية، يوجب علينا كلمة اعتذار.. فإن عبارة شريعة الأحوال الشخصية إنما نشأت في عهد الظلام.. عهد تعطيل عمل الشريعة الإسلامية، فأخذت تقوم بجانب واحد، وتعطل بجوانب أخرى.. وما أحب أن ألقي اللوم على الاستعمار.. لأن الاستعمار نفسه إنما هو نتيجة لتخلف المسلمين، ونصولهم عن دينهم - الاستعمار ليس هو المرض، وإنما هو من أعراض المرض.. والذين يظنون غير ذلك، فيلقون عليه مسئولية تخلف الإسلام، والمسلمين، يخطئون كثيراً، نتيجة لسطحيتهم في التفكير.. وهم معرضون من ثم لشئ من خيبة الأمل، غير قليل، عندما ينظرون، وقد جلا الاستعمار من أرض العرب، وأرض المسلمين، ثم لا يزال العرب، والمسلمون، متخلفين، بعيدين عن دينهم.. إن السبب الحقيقي لهذا التخلف هو الجهل بالدين، والانجراف به إلى قضايا فقهية متحجرة، تكبل العقل، الذي يتخذها منهاجاً لدراسته، ولا تحرره..)
إن المفكّر الحق لا يقبل سوى أمر من ثلاثة : إما أن يوائم فكره عمله، أو يطوّر فكره ليوائم عمله، أو يترك فكره -اذا لم يوائم عمله ولم يقبل التطور- الى غيره. أما أن يلتوي المرء ويلوي عنق الحقائق ليأكل دنياه فهو من الانحطاط الخلقي والمعرفي، وعرفته البشرية حقبا عبر حقب وفكرا عبر فكر، ولكن ما رزئت البشرية مثلما رزئت بمن يسمون برجال الدين! فهم –وكما وصفهم الأستاذ محمود- قد اتسموا بالجمود الفكري والعقم العاطفي فضربوا بسيماهم هذه سياجا حول الدين (فلقد جمد هؤلاء الدين، وحجروه، في عصر اتسم بالسيولة، واحتشد بالحركة، والحيوية، والتجديد)
حينما دعا رجال الدين وأحزاب الطوائف والأخوان المسلمون ومن لف لفيفهم لتطبيق الدستور الإسلامي والشريعة الإسلامية، جابههم الأستاذ محمود وقال لهم بأنه لا توجد في الشريعة الإسلامية دستور، لأن الدستور لازمة الحكم الديموقراطي، وليس في الشريعة ديموقراطية، انما هي حكم الفرد الرشيد على القُصّر، ودعاهم لتجديد أمر دينهم والتفكر فيه، ودعاهم للمنابر الحرة.
وعندما حلّ اولائك الحزب الشيوعي السوداني، وطردوا نوابه من البرلمان، وعدلوا الدستور من عند أنفسهم لتسهل جريمتهم تلك، ثم أخرج أكثرهم حنكة (الدكتور حسن الترابي) كتابا أسماه (اضواء حول المشكلة الدستورية) يبرر فيه مجزرته غير الدستورية والتي جعلت رئيس قضاء السودان في ذلك الوقت (بابكر عوض الله) يتقدم باستقالته ويغادر البلاد، عندها جابههم الأستاذ محمود مرة ثالثة وأخرج كتابا في الرد على (الدكتور حسن الترابي) –الذي كان رئيس جبهة الميثاق الإسلامي- أسماه (زعيم جبهة الميثاق في ميزان: 1]الثقافة الغربية 2]الإسلام).
ولكشف زيف دعاة الاسلام -وخاصة القانونيين منهم ومن يدعي معرفته بدقاق الثقافة الغربية فيزيفها ليسوّل لنفسه ولغيره ما لا تحله كل الشرائع الديموقراطية- جعل عقلية الدكتور الترابي نموذجا فتتبع تزييفه لمعاني الديموقراطية وأوضح بعدها عن كل مفكّر ديموقراطي منذ (بركليس) الى (رسل) وقربها لكل شمولي فقارن فقرات الدكتور الترابي بمقتطفات من أقوال (موسليني) فجاءت شبه متطابقة!
في نهاية الأمر سحب الدكتور كتابه من الأسواق ولا نعرف له اثرا حتى الآن.
حينها ضاق صدر رجالات الدين مجتمعين بالأستاذ محمود.. مجرد (باشمهندس) لا علاقة له بالتعليم الديني الموروث يريد أن يُعلِّم أهل الحرفة أصول حرفتهم!
في نوفمبر من العام 1968 أصدرت المحكمة الشرعية ردة الأستاذ محمود محمد طه عن الإسلام، وأمرت بتطليق زوجته منه ومصادرة أمواله! ولكنها محكمة شرعية لا سلطة لها ولا قوة سوى أن تشوّش البسطاء وتحجب عنهم الحقيقة ما استطاعت لذلك سبيلا.