إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
وقف رئيس الحزب الجمهوري أمام زملائه في مؤتمر عام للحزب عقد في أكتوبر من العام 1951م، كان ذلك عقب خروجه من معتكفه مباشرة، وحينها قرر أن يبين-أول ما شرع في التبيين- منهجه الجديد لصحاب الأمس القريب. قال الأستاذ محمود: (الحزب الجمهوري ليس حزبا يقوم على التهريج، كما هي العادة المألوفة لدى الأحزاب التي نراها، ونسمع عنها، وإنما هو دعوة إلى فكرة، أولا، وقبل كل شيء) وجوهر تلك الفكرة أن الحكومة نظام اجتماعي وهو وسيلة لغاية هي (الإنسان الحر) والفكرة الاجتماعية الصالحة هي التي توفق بين حاجة الجماعة وحقها في العدل، وبين حق الفرد في الحرية المطلقة!! والعقبة التي تقف بين المجتمعات وهذه الغاية هي عقبة (الجهل) ولتجاوز هذه العقبة لا بد من انشاء نظام يكفل المساواة الاقتصادية، وهي مساواة لا يرجى منها اذا لم تكفل معها الديموقراطية.
ثم طفق الأستاذ محمود يتعرض بالنقد للديموقراطية الرأسمالية الغربية التي طففت بأكل تراثها من النظام الإقطاعي الرأسمالي فأنجبت في حاضرها تفاوتاً طبقيا!! (وحاولت، تحت ضغط المتطرفين الثائرين على الماضي، أن تتطور منه إلى اشتراكية تحقق العدالة الاجتماعية، والحرية الفردية ولكن ظهورها كان، ولا يزال ، بطيئا جدا، وذلك لشدة المقاومة التي تلقاها من الرأسماليين الذين يسيطرون على نظام الحكم فيها) .
كما أخذ يتعرض بالنقد للنظام الغربي الشيوعي فقال:
(وأما الديمقراطية الشيوعية فإنها قد ثارت على وراثة الماضي ، فحطّمت المجموعة الرأسمالية والإقطاعية التي سبقتها، وبنت على أنقاضهما ديكتاتورية غاشمة، جعلت همها تغيير الوضع السيء الذي وجدت فيه الشعب الروسي المتأخر، ونصبت نفسها وصية عليه ولما كانت حالة الشعب متأخرة فعلا. ولما كان هذا النظام ثورة جديدة، وتجربة جديدة ، فإنه قد تورط في الشطط الذي يتورط فيه أمثاله، وذلك أن هذا النظام الشيوعي قد أهدر حق الفرد في الحرية، ليستطيع أن يحقق للمجموعة العدالة الاجتماعية، أي المساواة الاقتصادية، ولقد قطعت الشيوعية، في تجربتها شوطا بعيدا، تعد فيه ناجحة، ولكنها سارت في طريق خطأ، حين ظنت أن الإنسان يكفيه من حياته، المتاع المادي، ويعوضه عن حريته.. ويظن بعض الناس أن الشيوعية ستحقق الحرية الفردية بعد أن تثبت قواعدها.. وهذا فهم خاطئ، لأن نظاما قام على كبت الحرية، من بداءته، واستمر في كبتها إلى اليوم، لا يمكن أن يبقى إذا تسامح في إطلاقها في غده، وسيظل دائما كابتا لها، غير متسامح فيها.. وإنه لمن طبائع الأشياء أن أي نظام يقوم على الثورة، كما قامت الشيوعية، لا يمكن أن يبلغ الكمال ذلك لأن للثورة دائما رد فعل، يحطمها في آخر الأمر.. ولا يبلغ الكمال إلا التطور الواعي، السريع، فهو وحده الملائم لطبيعة الحياة) .
وخلاصة ذاك النقد (يفرق الناس الآن، تفريقا كبيرا بين الديمقراطية الرأسمالية، والديمقراطية الشيوعية، وهو خطأ مصدره النظر السطحي للمسألة.. والنظرة العميقة تظهر جليا أن الرأسمالية، والاشتراكية، والشيوعية، والاشتراكية الوطنية- أي الفاشية، والنازية- كل هؤلاء يرجع إلى فلسفة واحدة، هي المادية الغربية الحاضرة..)
وعليه.. فإن الحل الأمثل لمشكلة السودان –ومن ثم الإنسانية- موجود في فهم للإسلام يجعله فكرة تقوم في اساسها لفهم الإنسان لعلاقته بمجتمعه ولعلاقته بكونه، وبها يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية دون أي تعارض مع الحرية الفردية المطلقة (لابد، لتحقيق الديمقراطية الشعبية، من الإسلام، لأنه الفلسفة الاجتماعية الوحيدة، في هذا العالم، التي حاولت، وأفلحت، في الجمع بين الروح والمادة، على هدى، وبصيرة، والجمع المستبصر، بين الروح والمادة، هو وحده الذي يمكن أن يحقق الحرية الفردية، والعدالة الاجتماعية، في نظام متكافل للجميع..)
إن أي محاولة لإخراج المستعمر دون أن تتضح ما هي الغاية من ذاك الإخراج، أو الاستقلال، هي سوق للشعب نحو حرب أهلية لا مفر منها. هكذا صدح بها الأستاذ محمود قبل أربع سنوات من الاستقلال. قال أيضا إنه لا مفر من البحث عن غاية للأحزاب التي لم تجتمع كلمتها سوى على هدف ضعيف هو الاستقلال، وحتى ذاك فإنها لم تر له سبيلا سوى محاولات التعاون والتحالف مع هذا المستعمر او ذاك!!
ولقد فصّل الأستاذ –فيما بعد، وهو ما سنأتيه لاحقا- حول ما يعنيه بالإسلام، وهو بطبيعة الحال ما أراد تلك الجعجعة التي اشتعلت في تلك الآونة ولا زالت تتقد بلا طائل حتى الآن، وإنما قصد أمرا جديدا، كل الجدة، جعل زملاء الأمس في شقاق، فآثر بعضهم إعتزال العمل السياسي وهم لا زالوا يحتفظون بمودتهم ومحبتهم لثائر الأمس، ولكنهم في خلاف- مع مفكِّر اليوم- لا يفسد لودهم قضية.