إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
يهدى الى:
"ماما" اسماء محمود محمد طه وشيخ ابراهيم يوسف، ودكتور عمر القراي، وقصي همرور.. هذا بعض ما أخذت منكم، فهو يهدى لكم مع محبتي الصادقة التي لا تخفى.
(1)
في الثامن عشر من يناير1985م، وفي صباح الجمعة، كشأن السيد المسيح، صعد الأستاذ محمود محمد طه(1909-18يناير1985م) الى منصة الإعدام بسجن كوبر، وسط تهليل وتكبير، صوره لنا المخرج العالمي ميل جيبسون في فلم (آلام المسيح)، ووسط آمال ورغبات ودموع مريديه –أو قل، للإنصاف- والعاقلين من أبناء وبنات الشعب السوداني والمعمورة. فما هي الجريرة التي أرتكبها ذاك الشيخ السبعيني، حتى يثور عليه رجال الدين والحكم في بلاده، ويرون أن الموت أنجع وأمضى ما يداوونه به!!
إن كل المهتمين بالشأن السياسي السوداني يعلمون أن محاكمة (طه) لم تتعد أبعادها السياسية بالنسبة للنظام الحاكم (ثورة مايو 1969-1985)، فالشيخ قد كان سجينا من قِبَل النظام، الذي أيد مقدمه منذ خواتيم الستينات وإلى قبيل بضع سنوات من زواله بإنتفاضة شعبية(أبريل1985)! ولقراءة الأمر بصورة صحيحة يجب علينا أن نرجع الى الوراء كثيرا، إلى قبيل استقلال السودان بقليل.
(2)
الطبيعة الغريبة للاستعمار الذي وقع على السودان، جعلت حركته الوطنية المناهضة للاستعمار أيضاً غريبة بعض الشيء!! سميت الفترة في تاريخ السودان من العام (1899)وإلى (1956) بالحكم الثنائي. هذا لأن استعمار السودان قد كان (ثنائياً) من قِبَل (إنكلترا) و (مصر)، وهذه الآخيرة حاولت دائما، وعلى لسان قادتها والناطقين الرسميين باسمها، أن تتنصل عن هذا الأمر بحجة أنها أيضا قد كانت مستعمرة! ولكنها حجة يكذبها واقع الحال الذي يشهد بالفوائد الاقتصادية التي جنتها مصر وأكبرها –سيئة الذكر- اتفاقية مياه النيل!
الأطماع المتبادلة بين مصر وبريطانيا جعلت الحركة الوطنية فيما بعد تأخذ ذات الشكل (الثنائي)، فقبيل يرى ضرورة الالتجاء الى مصر باعتبار الحق التاريخي الذي تستحقه، وباعتبار ضرورة وحدة وادي النيل، وقبيل يرى أن الطريق الأمثل للسودانيين هو التعاون مع بريطانيا لأنها الوحيدة القادرة على وقف الأطماع المصرية التي تتربص بالسودان وأن الأفضل للسودان أن يكون من دول التاج البريطاني!
(3)
في ثلاثينيات القرن الماضي أنشأ السودانيون (مؤتمر الخريجين) وهو يضم خريجي كلية غردون، والسودانيين الذين تخرجوا من جامعات أخرى كـ"بيروت" و "القاهرة".
كان نشاط المؤتمر يقتصر على المجال التعليمي والاجتماعي والثقافي، ولقد كان له دور مشهود في جمع التبرعات لإنشاء المدارس الأولية في القرى والمدن. ولكنه كان يدع أمر التعليم للاستعمار بعد إنشاء تلك المعاهد التعليمية!
لقد قام المؤتمر بمباركة مشهورة من الحاكم العام البريطاني، وبتبريكات دولتي الاحتلال(خصوصا بريطانيا) التي رأت أن تتقرب للسودانيين بعد أن نفذت حركة اللواء الأبيض، المعادية للاستعمار البريطاني فقط، اضطرابات (1924)، وبعد مقتل السير لي ستاك (1868-1924) الحاكم العام للسودان بشارع أبو الفداء بالقاهرة في نهاية نفس العام. إلا أن المؤتمر نفسه قد كان يحمل بذرة الخلاف في داخله، فبعض قادته يرون أن حركة (1924) قد كانت في الاتجاه الصحيح وأن معاداة بريطانيا والتقرب الى مصر هدف نبيل وصحيح. والبعض الآخر (ومنهم من كان يؤيد حركة 24 ثم بدّل مواقفه بعدها) يرى أن مصر لا هدف لها سوى مصالحها الذاتية، وأنها مثلت هذا بصورة واضحة عندما تخلت عن الثوّار وتركتهم لقمة سائغة للبريطانيين، ولم تفِ بوعدها بأن تتضامن مع الثوار، بل سحبت جيشها الى الخطوط الخلفية. ثم إن التعاون مع بريطانيا أكثر نفعا لقضية الاستقلال.
ولكن هذان الصراعان لم يظهرا بصورة واضحة والمؤتمر لا شغل له بالعمل السياسي، ويحصر نشاطاته فيما ذكرنا سابقاً.