إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
في العام (1942) بدأ المؤتمر نشاطه السياسي بتقديمه مذكرة للحاكم العام جاء فيها: ((حضرة صاحب المعالي حاكم عام السودان- بواسطة سعادة السكرتير الإداري لحكومة السودان: يا صاحب المعالي: يتشرف مؤتمر الخريجين العام أن يرفع لمعاليكم بصفتكم ممثلين لحكومتي صاحب الجلالة الملك جورج السادس ملك بريطانيا العظمى، والملك فاروق ملك مصر، المذكرة التالية التي تعبر عن مطلب الشعب السوداني في الوقت الحاضر.))!! وتم تذييل الرسالة بالعبارة التالية:
((خادمكم المطيع رئيس مؤتمر الخريجين العام- أم درمان 3/ابريل/1942. ))!!
من الواضح تماما ومن لهجة الخطاب أن المؤتمر قد انتهج سياسة المهادنة والدبلوماسية في صراعه مع المستعمر الإنكليزي، هذه السياسة لن تتغير على المدى القريب، بل ستستمر الى ما قبل الاستقلال (يناير1956) بسنوات قليلة وحتى بعد انفراط عقد المؤتمر وذوبان خريجيه في الحزبين الكبيرين (الأمة) و (الاتحادي). أما الفضل في تغيير تلك السياسة فيعود الى بروز حزبين في الساحة السياسية السودانية، ثانيهما(الحزب الشيوعي السوداني) وهو قد نشأ –وبهذا الإسم- بعد(الحزب الجمهوري)، اما هذا الآخير فهو أولهما، وهو –ومن ظاهر اسمه- قد رفض بدايةً أن يكون السودان تابعاً لأيٍ من المملكتين المستعمِرتين، ورفض كذلك أي شكل من أشكال التعاون أو الوحدة مع أي حكومة مستعمرة، وصرّح رئيسه (محمود محمد طه) في خطابه للحزبين الكبيرين بتاريخ 18/2/1946م:
((ياجماعة الأشقاء وياجماعة الأمة – أيها القاسمون البلاد باسم الخدمة الوطنية – أيها القادحون قادحات الاحن بين أبناء الأمة – أيها المذكون ثائرات الشر والتفرقة والقطيعة ، أيها المرددون النغمة المشئومة – نغمة الطائفية البغيضة – انكم لتوقرون أمتكم وقرا يؤودها.
ياهؤلاء ، وهؤلاء ، أنتم تلتمسون الحرية بالانتماء الى المصريين فتتمسكون بأسباب رمام ، وأنتم تلتمسون الملك بالبقاء تحت الانجليز فتتهيأون لدور الهر الذي يحكي بانتفاخه صولة الضرغام .. أنتم تريدون ابقاء المصريين ، وأنتم تريدون ابقاء الانجليز ، فاذا اجتمعت كلمتكم فانما تجتمع على ابقاء المصريين والانجليز معا
ياهؤلاء ، وهؤلاء ، أنتم تتمسحون بأعتاب المصريين لأنكم لاتقوون على مواقف الرجال الأشداء ، وأنتم تتمسحون بأعتاب الانجليز لأنكم صورتم المجد في أخلادكم صورا شوهاء .. أنتم تريدون السلامة ، وأنتم تريدون الملك .. أنتم تضيعون البلاد لمّا تجبنون وأنتم تضيعون البلاد لمّا تطمعون .. أنتم تستغلون سيدا لايعرف ماتريدون ، وأنتم يستغلكم سيد يعرف مايريد ، والبلاد بينكم أنتم ، وأنتم ، على شفا مهواة ومهانة )).
لقد غير الحزب الجمهوري من شكل النضال ضد الاستعمار فقدم أول ثورة شعبية سلمية إنطلقت من مدينة رفاعة بقيادة رئيسه محمود محمد طه، وعندما أخمدت الثورة كان الأستاذ محمود معتقلا من قِبل النظام الاستعماري كأول (معتقل) سياسي في الحركة الوطنية السياسية الحديثة التي نشأت مع بروز مؤتمر الخريجين.
خرج الأستاذ محمود من المعتقل ليواجه السجن مرة أخرى بعد أقل من عام حين طلب منه المستعمر أن يمضي تعهدا بعدم ممارسة السياسة فرفض ذلك الأمر وأحب السجن بديلا عنه.
(5)
في سجنه الثاني أخذ الأستاذ محمود يتعهد نفسه بمنهج "السنة النبوية"، الذي هو أشبه بنهج المتصوفة، في الصوم "الصمدي" والتأمل الروحي والمادي، فظن المستعمر أنه مضرب عن الطعام وخاف إن مات أن يقدمه شهيدا يلتف الشعب حول ذكراه، فأُخرج من السجن ليدخل بنفسه في خلوة طوعية استمرت حتى مطلع العام 1951م، وفيها انتهج ذات النهج الذي بدأه في سجنه.
كان من الممكن جدا –ومما تحتمله بيئة السودان الشمالي أيضا- أن يقف القطار بالأستاذ محمود عند هذه المحطة التقليدية! متصوف قام بتهذيب نفسه وبالعزلة عن الناس وأن تثمر عبادته طريقة صوفية تقليدية تجمع الأتباع على التصوف المعروف. هذا أمر معهود ودرب مطروق، قطعه سادة أماجد وخلفوا مدارساً في الزهد والأدب والمعرفة، لكنها تُقصِّر في المجال الحديث، في صنع الدولة، وتربية النشء على الارتفاق بالحضارة والتفلسف الحكيم وفق مقتضيات العصر!
لقد نظر الأستاذ محمود الى نفسه والى دينه فوجد أن أمر نفسه لا ينصلح دون الدين، هذا ما أوضحته له تجربته العلمية العملية، ووجد أن أمر دينه لا يقوم وهو يمتلئ بالخرافات والدجل والاستغلال والتخلف والعادات البالية ففجّرَ ثورة دينية مذهلة، حاكت ذهول العلماء أمام انفلاق الذرة في الصحراء.
(6)
خرج الباشمهندس محمود محمد طه من خلوته وهو يحمل معه فكرا جديدا على الموروث الإسلامي، ويحمل معه طرائق جديدة على الهمة البشرية والأخيلة الإنسانية. لكن المزاج السياسي الذي اجتاح التنظيمات السياسية الناشئة قد كان يحترم الدين -بحكم طبيعة الناشطين المتدينة- إلا أنه لم يكن مستعدا للتعامل بغير النظام العلماني البسيط الذي ورثت تركته من الاستعمار البريطاني. الأخطر من هذا أنها لم تكن أصيلة حتى في انتمائها العلماني، لهذا سنجدها وبعد سنين قليلة من الاستقلال تستغل الدين أبشع استغلال، وتحوّر الدستور لتخرج الحزب الشيوعي من البرلمان وتقتل الديموقراطية. الحزب الشيوعي نفسه، أكبر حليف للحزب الجمهوري سياسيا، قد كان-وبطبيعة الحال- في قطيعة فكرية– شبه كاملة- مع ما أتى به الأستاذ محمود من أفكار دينية حديثة. وآخيرا فإن الساحة قد امتلأت مع هذا وذاك بالطائفية والتنظيمات الإسلامية التقليدية التي تنادي بتحكيم الشريعة الإسلامية بصورتها السلفية التي طبقت في القرن السابع الميلادي.
في مثل هذا الجو خرج الأستاذ محمود من خلوته، ولكن واجبه الأول كان مواجهة تنظيمه الجمهوري نفسه، لقد قال أبانا الذي في الصليب:
(إن البيت المنقسم، لا يقوم)
كان من الصعب (على كل) أتباعه (الذين يدانوه سناً) أن يتبعوه في أفكاره الجديدة، وهم يرونه بالأمس معهم يأكل ويشرب ويمارس السياسة المعتادة! هولاء قد خرج بعضهم من التنظيم وهم يحترمون الرجل السياسي والمناضل، ولكنهم لا يقبلون أن يتحول تنظيمهم الى جماعة دينية حتى وإن كانت مختلفة. وعن مخاوف هولاء وغيرهم تحدث المؤرخ الشيوعي الأستاذ محمد سعيد القدال ناقداً الحزب الجمهوري وقائلاً:
(( إن أزمة الحزب الجمهوري، أنه قائم على نقاء السريرة وصفاء الطوية دون أن يدرك أن ذلك النقاء وذلك الصفاء لا بد لهما من مناورات وعمل تكتيكي يجعلهما قادرين على الحركة السياسية في واقع يصطرع بالمناورات والتكتيك وليس مجرد الانكفاء على مثل وقيم رفيعة…………… ولكن غاب عنه (اي الحزب الجمهوري) ان الاسلام في المعترك السياسي له ممارسات وتجليات أخرى استغلها حاملوه ورفعوا لها ألوية ولكنهم تستروا خلف تلك الألوية لإدراكهم أنها لن تجد قبولا من أصحاب الشأن في الدولة)) .
أما الأستاذ محمود فإنه ما كان ليهتم بالآراء المسبقة عن (تجليات الإسلام في المعترك السياسي) تلك التي نست أيضا الجوانب المضيئة لذلك الدين في بسط القانون في جزيرة العرب، ونشر قيم معرفية على العالم أجمع لا ينكرها كل ذي بصر تاريخي ومعرفي.
وكشأن السيد المسيح أيضاً كان الأستاذ محمود يريد أن يرد الأمر الى معينه الأصلي، إلى روح ما جاء به النبي محمد، وما سار عليه أبو بكر وعمر.. وكأنه قد قال: (ما جئت لكي أنقض.. ولكن لأكمِّل).