إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
عندما أتى مساء الرابع والعشرين من مايو 1969م كان زعماء الأحزاب التقليدية ينامون وهم يحلمون بصباح الغد الذي سيمكنهم من إقصاء الحزب الشيوعي للأبد، وسيجعلهم يهنأون بحكم البلاد الى ما شاء الله، فبعد أن تخلّصوا من عدوّهم الباشمهندس ما عليهم الا طرح الدستور الإسلامي في الغد، وعندما يجاز ذلك الدستور يمكنهم تكميم الأفواه متى ما أرادوا!
ولكن صباح الخامس والعشرين من مايو جاءت رياحه بما لا يشتهي السَفِنُ، وقامت مجموعة من اليساريين والقوميين العرب بانقلاب على السلطة، وبمشاركة من رئيس القضاء الأسبق الغضبان (بابكر عوض الله)، واختاروا لثورتهم عقيدا صاحب مغامرات في الماضي اسمه جعفر محمد نميري.
أوقفت الحركة –أول ما أوقفت- عبث السلطة التشريعية والتنفيذية، وقطعت الطريق أمام ما أسموه بالدستور الإسلامي.
أيد الأستاذ محمود ثورة مايو.. كما أيدها الحزب الشيوعي، وشارك فيها بوزرائه داخل الحكومة.
مرة أخرى كان موقف الأستاذ محمود واضحاً: الخطران اللذان يتهددان البلاد هما الطائفية، والهوس الديني.. وعلى المفكرين الأحرار أن يقطعوا الطريق أمامهما..
مرة أخرى قال بأن الديموقراطية ليست مؤسسات يستغلها البعض لمصلحته الشخصية، وإن الديموقراطية الحقة هي التي تتيح فرصة للناس لكي يعبروا عن آرائهم في جو يحكمه القانون وتتاح فيه المنابر الحرة. اما أن تكمم الديموقراطية أفواه الناس، وتطرد نوابا منتخبين من البرلمان، وتخوض في أعراض الناس وتكفرهم وترهبهم، فهي ديكتاتورية مدنية، وهي أسوأ من الديكتاتورية المطلقة إذ تزين الباطل بثوب الحق.
لهذا وعندما رأى الأستاذ محمود أن من قاموا بالانقلاب ضباط أحرار لا ينتمون لحزب، طالب الأحزاب التقدمية أن يساعدوهم في أمرهم حتى لا يستحوذ الهوس الديني عليهم، وأن يشاركوهم حتى يساعدوهم على التحوّل الديموقراطي!
ومرة أخرى نكص زعماء الأحزاب عن دعوة الأستاذ محمود، ودخلوا في عداوات مع النظام الجديد. بدأ الأمر بالحزب الشيوعي، ثم لحق به القوميون العرب، وحتى الطائفية والأخوان المسلمين واجهوا النظام الجديد بالمعارضة المسلحة تارة، والسلمية تارة أخرى. كل هذا والأستاذ محمود ماض في دعوته لمجابهة الهوس الديني، وعدم ترك الشعب السوداني لقمة هينة له. قال بأن أكبر جريمة يرتكبها المفكرون الأحرار هي ترك الشعب للتنظيمات الإسلامية فهي لا بد –وإن سار الأمر بهذه الوتيرة- أن تصل الى مأربها، وتذيق الشعب الأمرين، وتستغل الدين أبشع استغلال. هذا ما قاله في نهاية سبعينيات القرن المنصرم، وهو نفسه ماردده في خمسينياته حين كتب:
(ان الاسلام بقدر ما هو قوة خلاقة اذا ما انبعث من معينه الصافي واتصل بالعقول الحرة واشعل فيها ثورته وانطلاقه، بقدر ما هو قوة هدامة اذا ما انبعث من كدورة النفوس الغثة، واتصل بالعقول الجاهلة، واثار فيها سخائم التعصّب والهوس. فإذا ما قدر لدعاة الفكرة الاسلامية- الذين أعرفهم جيدا- أن يطبقوا الدستور الإسلامي- الذي يعرفونه، ويظنونه اسلامياً- لرجعوا بهذه البلاد خطوات عديدة للوراء، ولأفقدوها حتى هذا التقدم البسيط الذي حصلت عليه في عهود الاستعمار، ولبدا الإسلام على يديهم وكأنه حدود وعقوبات على نحو ما هو مطبق الآن في بعض البلاد الاسلامية، ولكانوا بذلك نكبة على هذه البلاد وعلى الدعوة الإسلامية أيضا) .
أخرج الأخوان الجمهوريون عددا من الكتب حملت دعوة للمفكرين واليساريين لكي يحموا نظام مايو من الهوس الديني ومن الطائفية، وقالوا لهم إن أنتم حاربتم هذا النظام فستعودون لعهود أبشع خلفتموها وراءكم، ولأعدتم البلاد الى مربع (الديكتاتورية المدنية) وعبث الطائفية بالدستور، إن الفرصة الأسلم، والأفضل، هي الالتفاف حول هذا النظام وتحويله تدريجيا للديموقراطية! ولكن دعوة تلاميذ الأستاذ محمود لم تلق أذناً لها تصغي.. ومرة أخرى حدث ما توقع له الأستاذ محمود الحدوث، وألقت الطائفية بثقلها على مايو، وفعل الأخوان المسلمون ذات الشيء وأصبح الناس في شهر سبتمبر من العام 1983م ليفاجأوا بنظامهم العلماني وهو يعلن الشريعة الإسلامية حكما للبلاد، واندلعت الحرب الأهلية مرة أخرى.
(10)
حينما ينظر من حوله يجد آذانا لا سمع فيها، وعيونا لا بصر لها، ولكنه يؤمن بأمر علّمه لتلامذته: (جوّدوا الواجب المباشر، ولا تنتظروا النتيجة). أن تعيش لحظتك الحاضرة بصورة أساسية، وأن تلقي أوهام المستقبل وظنون الماضي وراء ظهرك هو درسه الأول، وأن يقودك بمنهجه لهذه الغاية هو عمله الأول.
تطورّت الأحداث بصورة مذهلة، فالشيخ الذي أيد النظام لأسباب واضحة رأى أن النظام قد بدأ في التخلي عنها، فشب بهمة شاب في الثلاثين يدافع عن شعبه الذي يجلد ويقطّع بلا جريرة. تحدث لتلامذته في يوم أرخوه باسم (حديث الفداء) وقال لهم إن الذي يعيش لربه يجب أن يعيش للناس، ويدافع عنهم ويفديهم بروحه، وطلب أن يستمع لأغنية سودانية شهيرة عنوانها (أنا أم درمان) وتساقطت دموعه وتلميذه ينشده:
(فيا سودان إذ ما النفس هانت
أقدم للفداء روحي بنفسي)
وبذكرهم، ونشيدهم، وجلابيب رجالهم وثياب نسائهم البيض، خرج الأخوان والأخوات الجمهوريون الى شوارع العاصمة وهم يحملون منشورهم ضد قوانين سبتمبر، وضد الظلم والقهر، وضد تمزيق البلاد، وضد الحرب الأهلية، وضد الهوس الديني، حمل منشورهم اسم (هذا.. أو الطوفان) قالوا فيه إن القوانين التي سنّت هي قوانين مخالفة للدين الإسلامي، وهي قد أذلت الشعب السوداني:
(إن هذه القوانين قد هددت وحدة البلاد ، و قسمت هذا الشعب في الشمال و الجنوب و ذلك بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب .. إن من خطل الرأي أن يزعم أحد أن المسيحي لا يضار بتطبيق الشريعة .. ذلك بأن المسلم في هذه الشريعة وصي على غير المسلم ، بموجب آية السيف ، و آية الجزية .. فحقوقهما غير متساوية .. أما المواطن ، اليوم ، فلا يكفي أن تكون له حرية العبادة وحدها ، و إنما من حقه أن يتمتع بسائر حقوق المواطنة ، وعلى قدم المساواة ، مع كافة المواطنين الآخرين .. إن للمواطنين في الجنوب حقا في بلادهم لا تكفله لهم الشريعة ، و إنما يكفله له الإسلام في مستوى أصول القرآن "السنة")
ثم طالب المنشور بإلغاء قوانين سبتمبر، وقال أيضاً:
(نطالب بحقن الدماء في الجنوب ، و اللجوء إلى الحل السياسي و السلمي ، بدل الحل العسكري. ذلك واجب وطني يتوجب على السلطة ، كما يتوجب على الجنوبيين من حاملي السلاح. فلا بد من الاعتراف الشجاع بأن للجنوب مشكلة ، ثم لا بد من السعي الجاد لحلها.)
كانت هذه من نصائح الأستاذ محمود-ولعلها آخر نصائحه- للشعب وللحكومة أهداها في عيد الميلاد المجيد، وعلى أبواب أعياد الاستقلال، فأخذته الحكومة الى سجن كوبر، حيث شنق.