إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search


الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٦)

خالد الحاج عبد المحمود


الإسلام كنظرية نقدية

الإسلام كنظرية نقدية
نقد الواقع


الواقع من حيث الدين - المسيحية (3)


قلنا أن المسلمين، يؤمنون برسالة سيدنا عيسى، وجميع أنبياء بني اسرائيل، الوارد ذكرهم في القرآن.. وهذا بخلاف الحال بالنسبة لليهود والنصارى، الذين لا يؤمنون برسالة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. وحسب المعراج، سيدنا عيسى وابن خالته سيدنا يحي في السماء الثانية.
والمسيحيون، أكثر ما ينكرون على المسلمين، الحرب، على اعتبار انهم دعاة سلام!! وهذه أكبر مغالطة، إذا تحاكمنا الى التاريخ.. فأتباع الدين المسيحي، هم أكبر مثيري الحروب في تاريخ الحضارة البشرية كلها.. فحروبهم تفوق حروب جميع أصحاب الديانات الأخرى، وبآماد بعيدة، من حيث عددها، واستمراريتها، وعنفها وكثرة ضحاياها، وضعف مبرراتها.. وهذا في الفترة التاريخية التي انتشرت فيها المسيحية ـ الفترة التي تلت فترة الاضطهاد الروماني للمسيحيين، الذي تم إيقافه على يد قسطنطين 313 ميلادية والى اليوم.. والمسيحية، على الرغم من أنها في اصلها، وكما هي عند السيد المسيح، مبشرة بالسلام، إلا أنها من الناحية العملية، أكثر دين سماوي فلسف للحرب، ومارسها، باسم الرب، وباسم الدين.
إن حروب المسيحيين فيما بينهم، كمذاهب مسيحية، حروب كثيرة، وطويلة، منها حرب استمرت مائة عام، ومنها حرب الثلاثين المشهورة، والتي استمرت ثلاثين عاما من 1618 الى1648.. ويرى جونثان ريلي، أن مبادئ الحروب الصليبية "تبلورت في أن الكنيسة، ممثلة في البابوية، تتمتع بالحق الإلهي الذي يخولها سلطة الدعوة لشن حرب مقدسة في سبيل الله" ونتيجة للإصلاح الديني أصبح هناك اعتقاد عام هو أن لعامة المسيحيين، رسالة عليهم القيام بها، وقد تقتضي هذه الرسالة ضرورة حماية الكنيسة والذود عنها.. وهذه الحماية ليست بالضرورة حربا دفاعية، وهي عمليا لم تقتصر على الحروب الدفاعية.. فقد استمر هذا المفهوم الرسالي، بصورة معلنة أو مستترة إلى اليوم، وآخر مظاهره الحرب على العراق.
وقد دعا العديد من البابوات للحرب، ومارسوها، وقادوا الجيوش.. فمثلا، في سنة 1053م قاد البابا ليو التاسع بنفسه جيشا ضد المورساه في ايطاليا، وبعد هزيمة ذلك الجيش، أخذ البابا على عاتقه مهمة تأبين الشهداء الذين سقطوا في المعركة وكان جيشه جيشا بابويا، ويعمل تحت راية بابوية، وصدرت اليه الأوامر بالتحرك للقتال بأمر البابا، وأعلن البابا لجنود ذلك الجيش منحهم الغفران على ما تقدم من ذنوبهم وخطاياهم.. وقد تعاظم الاتجاه الى شن الحروب، في عهد البابا جيروجوري السابع 1073-1085 ، الذي حارب الملك هنري الرابع.. والمبررات التي استخدمها البابوات، ورجال الدين ترجع الى أقوال آباء الكنيسة، وعلى رأسهم القديس أوغسطين.
وعندما اعلن البابا اوريان قيام الحملة الصليبية في 1095 كان يعتبر نفسه صاحب حق ديني في شن الحرب، بحكم سلطاته البابوية.. وقد استمرت الحروب الصليبية حوالي قرنين من الزمان!!
فإذا كان هنالك نشر للدين بالسيف، فالمسيحية هي ما ينطبق عليها هذا الأمر.. فقد قام شارلمان 742-814 بفرض المسيحية على السكسونيين بالسيف.. وفي الدنمارك استأصل الملك كنوت cnut الديانات غير المسيحية من بلاده بالقوة.. وفي بروسيا فرضت جماعة اخوان السيف المسيحية بالسيف، وكذلك فعل فرسان المسيح في ليغونيا.. وفي جنوب النرويج ذبح الملك اولاف الكثيرين من الذين رفضوا اعتناق المسيحية، وقطع أيدي وأرجل آخرين، ونفى آخرين، حتى انفردت المسيحية بالمنطقة.. وفي روسيا فرض فلادمير سنة 988 المسيحية على كل الروس، ولم يتم الاعتراف بتعدد الأديان، في روسيا إلا في سنة 1905 .. وفي الميجر أرغم الملك شارلي روبرت سنة 1340 غير المسيحيين على التنصر أو النفي من البلاد.. وفي مصر قتل جستنيان الأول 527 – 595 مائتي ألف من القبط في مدينة الاسكندرية وحدها، وذلك لأنهم كانوا يعاقبة!! ، وحتى يسود مذهب الأرثوسكس.. وفي الحبشة قضى الملك سيف أرعد 1342- 1370 باعدام كل من أبى الدخول في المسيحية أو نفيه من البلاد.. وفعل نفس الشيء في الحبشة الملك الجون في أواخر اقرن التاسع عشر.. وكذلك شهدت اسبانيا نفس التعامل مع غير المسيحيين، قبل فتح المسلمين لها، وبعد جلاء المسلمين منها على يدي فردناند وايزابيلا.. وكما هو واضح، جرى هذا على بقعة واسعة من الأرض، وعلى مدى طويل من التاريخ، وما ذكرناه مجرد اشارات.. وكل هذه الأعمال ترتكز على مفاهيم دينية، تجد سندها عند كبار رجال الكنيسة.. فالقديس توماس هو صاحب النظرية الشهيرة عن الحرب المشروعة، فهو قد وضع ثلاثة شروط تجعل الحرب مشروعة يرضى بها الله.. وهي شروط مبهمة الى حد كبير، وتتمثل في:
1. سلطة الأمير
2. سبب مشروع
3. الهدف الحنيف..
وقد رأينا كيف أن معظم حروب المسيحية هي حروب هجومية.
ففي الحروب المسيحية، التي أشرنا اليها، والتي لم نشر اليها، وما شنشير اليه بعد قليل، ارتكبت فظائع وأهوال، لم يشهدها تاريخ الحرب، حتى عند التتار!! ليس ذلك فقط، وانما أخطر من ذلك، أن الأعمال الوحشية من المسيحييين ضد خصومهم، كانت تجد الاعجاب، والاطراء من مسيحيين مرموقين!! فقد اورد لنا، مثلا، بوتول في كتابه (الحرب) ما نصه: "كتب ريمون داجيل كاهن كنيسة بوي puy في موضوع الاستيلاء على القدس فقال: رأيت اشياء كثيرة تـثير الاعجاب.. كان يرى في الشوارع، وعلى ساحات المدينة أكوام من الرؤوس، والأيدي والأرجل. ولقد كان الناس والفرسان يجوسون خلال الجثث من كل جانب، وفي الهيكل والرواق كان الناس يمشون ممتطين صهوات جيادهم ويخوضون في الدماء حتى ركب الفرسان، وأعنة الخيل.. لقد كان عادلا ، ومثيرا للاعجاب ، حكم الله، الذي اراد أن يتلقى هذا المكان نفسه دم هؤلاء الذين سبهم الدين نجسه، أمدا بعيدا. إنها مشاهد سماوية، في الكنيسة، وفي كل المدينة كان الشعب يشكر الرب"!!
نورد هنا بعض أقوال أنثروبلوجيا الشهيرة، مانسفيلد، حول المسيحية والحرب.. فهي عندما سألت: كيف كان في ظهور المسيحيين تغيير في الحرب؟ أجابـت: "المسيحية تنطوي على مفارقة.. والثقافة المسيحية هي في آن واحد، أكثر سلمية في مقصدها، وأشد عنفا في فعلها من أي ثقافة أخرى وجدت من قبل، وقد كان المسيحيون الأوائل يبغضون الحرب، وذلك لأن الجيوش الرومانية كانت تؤدي الطقوس الوثنية من ناحية، ولأن المسيحيين كانوا يظنون أن نهاية العالم وشيكة الوقوع فلا وقت لديهم للحرب، من ناحية أخرى.. ولكننا في (الرسل) ـ سفر من اسفار العهد الجديد ـ نشهد ثورة أخرى في فهم الحرب. فقد يعاني الناس في الحرب لا لأنهم مذنبون، أو لأنها عقوبة الهية، ولكن لمجرد أنها جزء من التناهي الانساني.. فالحرب واحدة من الآثار الجانبية للخطيئة الانسانية نتيجة للانفصال عن الله، وعلى المؤمنين أن يتحملوها، وبقدر ما نفهم الله على أنه محبة، تفقد الحرب صفتها الاسطورية من حيث هي عقاب.
ففي عهد أوغسطين عادت الى الظهور الفكرة الرواقية عن الحرب القويمة أو العادلة. وأنكر أوغسطين أن يستطيع المسيحيون اشعال حرب هجومية، ولكن دافع عن حقهم في الدفاع عن أنفسهم، ضد المعتدي.. وما دام أغسطين يذهب الى أن الرجل الصالح (يجب أن يخوض حربا عادلة، فإنه يقترب من اضفاء القداسة على مثل هذه الحرب).. وحول السؤال: المشكلة بالنسبة للحروب العادلة أنها تصبح في النهاية حروبا غير عادلة!؟ أجابت مانسفيلد "أو أسوأ من ذلك، فقد تصير حروبا مدنسة ولما أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية، وجدت الكنيسة نفسها متورطة في الحرب، على نحو متزايد، وسمي المحارب المسيحي ملاكا منـتقما يعيد قوى الظلام، بما يمارسه من قتل، الى منزلها الحقيقي في الجحيم"