إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search


الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (٦)

خالد الحاج عبد المحمود


الإسلام كنظرية نقدية

بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ محمود في الذكرى الثالثة والعشرين
محاولة للتعريف باساسيات دعوته (6)
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) سبأ 24



"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشر ، من سعة العلم بدقائق الإسلام ، و بدقائق الأديان ، والأفكار ، والفلسفات المعاصرة ، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز إمتياز الإسلام على كل فلسفة إجتماعية معاصرة ، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكية.." الأستاذ محمود محمد طه



الإسلام كنظرية نقدية
نقد الواقع



الواقع من حيث الدين - المسيحية (1)


المسيحية، واليهودية هما آخر ديانيتين كتابيتين، قبل الاسلام.. فقد بعث سيدنا موسى، عليه السلام، حوالي ثلاثة عشر قرنا، قبل السيد المسيح، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث في القرن السابع الميلادي، حوالي ستة قرون بعد السيد المسيح.. ولد صلى الله عليه وسلم في 22/ ربيع الأول عام الفيل، حوالي أغسطس 570 ميلادية، ولحق بالرفيق الأعلى في 12/ ربيع الأول للسنة الحادية عشر من الهجرة، حوالي يونيو632 ميلادية.. ومنذ ذلك التاريخ، والى اليوم ـ حوالي أربعة عشر قرنا ـ لم يتم بعث ديني، فقد نصل معتنقوا الديانات الثلاث عن دينهم، كما رأينا، وأصبح الدين الجديد السائد دين الحضارة الغربية، الذي بدأ في القرن الخامس عشر، واكتملت له السيادة، في القرن العشرين، الذي يعتبر، بحق قرن الحضارة الغربية.. ودين الحضارة الغربية، دين أرضي، دين مادي.. وهو حسب المصطلح الديني (عهد فترة) .. وهو أعظم الأديان الأرضية، على الإطلاق، وخلاصتها، وفيه لأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية يصبح أهل الأرض جميعا، أهل دين واحد.. وهم بالطبع يتفاوتون كثيرا، في مدى تشربهم لهذا الدين.. وسيادة الدين الجديد، لا تعني أن عقائد، وطقوس الأديان السابقة، قد انتهت تماما، وإنما يعني أن الأديان القديمة، وإن وجدت كعقائد، وطقوس شكلية، لم تعد توجه حياة الناس، وإنما الذي يوجه حياة الناس هو الدين الجديد ولكن معظم أهل الأرض لا يزالون ينتسبون لأديانهم القديمة.. والآن، فإن الدين الجديد نفسه، قد أصبح موضع تساؤل، ولم يعد أصحابه على نفس صمامة العقيدة، وعلى نفس الثقة في دينهم، التي كانوا عليها، فهم لم يجدوا السعادة التي كانوا يطمحون اليها، وبدأ ينجلي بصورة كبيرة، أن الدين الجديد، رغم أنه حقق الكثير جدا، من الفتوحات العلمية، ومن الوفرة ورغد العيش، إلا أنه عجز عجزا بينا، عن حل مشكلات الانسان، بل أكثر من ذلك أضاف اليها العديد من المشكلات الجديدة، والخطيرة!! وفي الحق أن الدين الجديد لم يقصر عن تحقيق دعوته، فهو منذ البداية، كان دينا علمانيا، دعوته كلها تتعلق بالحياة الدنيا، والقيم المادية، ولكن أصحابه، كانوا ينتظرون منه أكثر مما وعد به، ومما تعطيه طبيعته، فحلموا، في إطاره، بفردوس أرضي، فيه تحل جميع مشكلات الانسان، الوجودية، والمعرفية، والحياتية، ولم يجدوا من ذلك شيئا تطمئن له نفوسهم، فكانت خيبة الأمل.. وكما فعل أصحاب الأديان السماوية السابقة، تفرق أصحاب الدين الجديد، الى فرق عديدة، متطاحنة، يكفر بعضها البعض، وقد دارت بينها حروب ضروس، لم يشهد لها مثيل، في تاريخ الأديان، ولا تاريخ الحضارة، ومن بينها، حربان وصفتا بأنهما عالميتان!! ولا تزال الحروب تدور.. وأشدها ضراوة تلك التي داخل الأفراد.
ولما كان الدين الجديد، هو آخر الأديان، ولم يظهر حتى الآن بديل له، يستوعب الطاقات الجديد، ويحل المشكلات، فقد تمسك به أهله، بعد أن اهتزت عقيدتهم فيه بصورة كبيرة، وأصبح الكثيرون منهم يتطلعون الى خلاص، والى مخلص.. بعضهم ينتظر الخلاص من داخل الدين السائد نفسه، بأن يأتي من مسيحه المخلص ـ العلم المادي التجريبي ـ والبعض الآخر، اتضح له أن المخلص لابد أن يكون من خارج الدين السائد.. والأغلبية الساحقة انكفأت على عبادة العجل، وأغرقت نفسها، بطقوس الانتاج والاستهلاك.. مزيد من الانتاج، مزيد من الاستهلاك، وهكذا دواليك.. ولأن عبادة الانتاج والاستهلاك عبادة مكلفة نفسيا، وعائدها من حيث الطمأنينة ضعيف جدا، ووقتي، فقد تمت الاستعانة، بشتى صنوف المسكنات: الطبيب النفسي والعصبي، والتسلية الهروبية، التي تفننت في انتاجها الرأسمالية، ضمن ما تنتج من سلع، فكانت شبكة الانترنت، وقنوات التلفزيون، وما تبثه من فن وبرامج هروبية، الى جانب الخمر والمخدرات، والجنس، والمقامرة، التي أصبحت في إطار البورصة والمضاربات الرأسمالية، سمة أساسية للاقتصاد!! لقد أصبح ثالوث الدين السائد: عمل، استهلاك، قتل الوقت.
أصبحت البشرية في مفترق طرق، وتوكدت الحاجة للخلاص بصورة كبيرة، وهي حاجة تلح كل يوم جديد بصورة أكبر.. وعند الأزمات التي تنبهم فيها السبل، وتطبق الحيرة، تزداد التطلعات الى الغيب، في انتظار مخلص يأتي من قبله.. البعض لا يزال، له بقية من ايمان بالمخلص الجديد، الذي أصبح قديما ـ العلم!! أما إننا وقد وصلنا الى الجينوم فما الذي يمنع من خلال فك شفرة خريطتنا الجينية، من معرفة سر الحياة، والموت، والمرض، والعجز، فنقضي بذلك على نقصنا، وعجزنا ومرضنا وموتنا، ونحقق الخلود الذي نصبو اليه! ؟ ولكن هذه العقيدة، أصبحت ضعيفة جدا لأن مخلصها، ـ العلم ـ لكثرة معجزاته في ميدانه، والتعود عليها، اصبحت تقليدية، لا تبهر.. وأخطر من ذلك، اتضح أنه مخلص، متقلب، مجنون!! فبضربتين فقط، قضى على كل صور اليقين التي أعطاها، حتى القرن التاسع عشر، وذلك عندما تم اكتشاف نظريتي النسبية، والكوانتم، التي انتجت نظرية عدم اليقين، وبذلك انقضى عهد المادية، والحتمية العلمية، وبدأ عهد عدم اليقين العلمي!! والنسبية العلمية، والنسبوية الثقافية، والتشكيك في العقل، الذي انزل من عرشه، الذي وضعه فيه عصر التنوير، فبدأت إدانته بأثر رجعي.. ولكل ذلك بدأ عصر سيادة الشك، وعدم الانتظام.. وقد أصبح دين ما بعد الحداثة، هو اللاعقلانية، والشواش chaos، وعدم الاتساق، والتعدد الفوضوي ـ الكولاج.. الى آخر الأصنام الجديدة.. وليس في ذلك خلاص، وانما هي ظواهر تؤكد الحاجة للخلاص.
ومن الجانب الآخر، وفي إطار هذا الواقع، نفض بعض سدنة الأديان القديمة، الغبار عن جلابيبهم القديمة.. وتتطاولوا، متوهمين أن الوقت قد حان لدورة جديدة، من عصر الكهنوت والوصاية باسم الدين، فادعوا أنهم يملكون الحل، وهو العودة الى الماضي الجميل!! .. ماضي السلف من الأباء والأجداد.. في الماضي وحده، يكمن حل المشكلة، مشكلة الحاضر والمستقبل!! ولكن كيف! ؟ هذا السؤال يكرهونه!! فهم يريدون تسليما بلا كيف!! وعندما يضطرون للإجابة، يظهر عجزهم فاضحا، فيلجأون الى القول المبهم، والى التعميم، دون طائل.
لابد من خلاص.. فهل يملك أصحاب الأديان التقليدية، في دعواتهم السلفية هذا الخلاص! ؟ أم أن الدين الجديد ـ الذي أصبح قديما، هو الذي يملك الخلاص! ؟ وكيف! ؟ هذا ما نحن بصدده، ولا نحتاج الى كثير حديث عن اليهودية والمسيحية.. فاليهودية بطبيعتها، ليست دينا عاما لكل الناس، واليهود ليسوا حريصين على أن يدخل غيرهم في دينهم.. أما المسيحية، فهي أقرب للوصايا الأخلاقية، ولا تملك أي تشريع جماعي، خلاف ما جاءت به اليهودية، وقد ذكر السيد المسيح، أنه إنما جاء ليكمل.. فالسلفية الاسلامية هي ما تعنينا بصور أساسية.. ولكن لما كانت المسيحية صاحبة عقيدة في الخلاص، فسنـتعرض لها بإيجاز، ولا حاجة لنا في الحديث عن اليهودية.