إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (١١)

خالد الحاج عبد المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ محمود محمد طه في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته



الاسلام رسالتان:


مما تقدم يتضح ان الإسلام كما هو في القرآن وكما بلغه النبي في سنته، وفي شريعته، رسالتان، وليس رسالة واحدة .. رسالة أولى قامت على فروع القرآن ـ القرآن المدني ـ ورسالة ثانية تقوم على اصول القرآن – القرآن المكي – والرسالة الاولى هي موضوع رسالة الرسول محمد صلي الله عليه وسلم ، ويدخل فيها تبليغ القرآن المقروء كله، وتفصيل ما يناسب امة المؤمنين منه ، وذلك بالتشريع وبالتفسير .. وهذا هو معنى قوله تعالى: (وأنزلنا اليك الذكر، لتبين للناس ما نزل اليهم .. ولعلهم يتفكرون).. (وانزلنا اليك الذكر) تعني القرآن كله.. و (لتبين للناس ما نزل اليهم) يعني لتبين لهم ما نزل اليهم من الذكر الى مستواهم ، مستوى طاقتهم، ومستوى حاجتهم .. فالتبين لا ينصب علي القرآن كله، للأسباب التي سبق ان ذكرناها ونحن نتحدث عن القرآن ، وذكرنا فيها ان القرآن لا يتم تبيانه علي الاطلاق، لانه عند التناهي ، هو الاطلاق .. وقوله (ولعلهم يتفكرون)، يعني ضمن ما يعني، انهم بالفكر، المروض والمؤدب بادب الشريعة، وادب الحقيقة، يرتفعون من مستوى النص في المعنى القريب ـ القرآن المدني ـ الى مستوى معنى النص في المعنى البعيد – القرآن المكي – صعدا في سلم مثاني القرآن .. والقرآن المكي هو مستوى الأصول، لأنه أدخل في التوحيد من القرآن المدني، ولأن عليه تقوم حياة النبي، وهو يعبر عن مستوى السنة، ولأن كرامة الانسان به تتحقق بأكثر من ما تتحقق بالقرآن المدني.. والقرآن المدني، هو مستوى الفروع، لأنه تنزل من مستوى الخطاب الاصلي في قمة التوحيد، وقمة التقوى، والمعبر عنها بقوله تعالي: (يا ايها الذين امنوا، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون) الى مستوى طاقة الناس في القرن السابع الميلادي والمعبر عنه بقوله تعالي: (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا، ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون) .. فهو تنزل من مستوى النبي في خاصة نفسه ، الى مستوى الامة في القرن السابع .. من مستوى السنة الى مستوى الشريعة، وذلك لحكمة مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وتكليفهم في حدود طاقتهم. فلا بد من التمييز بين النبوة والرسالة، وبين الشريعة والسنة، وكذلك لا بد من التمييز بين الاحمدية والمحمدية ـ فالمحمدية تنزل من الأحمدية، اقتضاه حكم الوقت وعين مستواه حاجة الامة في القرن السابع وطاقتها .. .فالمسافة بين الاحمدية والمحمدية، تمثل الفرق بين السنة والشريعة، وهذه تحكي الفرق بين مستوى النبي، ومستوى الامة، وهو فرق شاسع .. ونبينا رسول الرسالتين - رسول الأمتين: الأمة المؤمنة ـ الاصحاب ـ والامة المسلمة ـ الاخوان ـ ورسالته الاولي محمدية، وفيها يجئ قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه، اشداء علي الكفار، رحماء بينهم).. ورسالته الثانية أحمدية وفيها يجئ قوله تعالى (واذ قال عيسى بن مريم يا بني اسرائيل اني رسول الله اليكم ، مصدقا لما بين يدي من التوراة، ومبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه احمد ، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) .. فقد جاء محمد، صلي الله عليه وسلم، بنبوة احمدية ورسالة محمدية، فدعا الى الايمان تفصيلا، ولم يدع الى الاسلام الا اجمالا، في معنى ما بلغ القرآن ، وفي معنى ما سار السيرة .. وقد استجابت له امة المؤمنين.. وسيجئ محمد برسالة أحمدية ونبوة أحمدية، فيدعو أمة المؤمنين، ويدعو غيرها من سائر الامم الى الاسلام ، ويفصل في التشريع، وفي التفسير (التاويل) ما أجمل في القرن السابع .. وسيستجاب له استجابة مستفيضة .. وقد استجابت الجاهلية الاولى – جاهلية القرن السابع –للرسالة المحمدية، التي تنزلت الى مستوى طاقتها، ومستوى حاجتها .. .والان وفي وقت الجاهلية الثانية قد اصبحت الارض مهياة لتتلقي عن الاحمدية، وتعي، اكثر مما تلقى، ووعى اسلافها، ولذلك جاء وقت الرسالة الاحمدية، وهي تطوير للرسالة المحمدية .. وذلك ببعث آيات الاصول التي كانت في عهد المحمدية، منسوخة، في حق الامة، ولم يعشها الا النبي الكريم في خاصة نفسه، لتكون هي صاحبة الوقت، وتكون هي عمدة التشريع الجديد، وهذا لا يقتضي الا فهما جديدا للقرآن، به تحيا السنة بعد اندثارها. فرسالة الاسلام الثانية هي اذن سنة النبي، التي تقوم علي ايات الاصول، القران المكي .. .وحين بشر الرسول الكريم ببعث الاسلام، انما بشر ببعث السنة، وليس بعث الشريعة، فهو قد قال: (بدأ الاسلام غريبا، وسيعود غريبا، كما بدأ.. .فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها).
فالشريعة الاسلامية كاملة، وكمالها انما هو في كونها جسما حيا، ناميا، متطورا، يواكب تطور الحياة الحية، النامية المتطورة، ويوجه خطاها ، ويرسم منازل القرب من الله، منزلة، منزلة، في طريق رجعاها الى الله..
والانتقال من الشريعة الى السنة يقتضي تطوير التشريع. وتطوير التشريع هو انتقال من نص الى نص.. من نص كان هو صاحب الوقت في القرن السابع ، فاحكم، الى نص اعتبر يومئذ اكبر من الوقت فنسخ .. قال تعالى: (ما ننسخ من اية، او ننسها، ناتي بخير منها ، او مثلها ـ الم تعلم ان الله على كل شئ قدير) قوله: (ما ننسخ من اية) يعني: ما نلغي، او نرفع من حكم اية .. قوله: (او ننسها) يعني: نؤجل من فعل حكمها.. (نأت بخير منها) يعني اقرب لفهم الناس، وأدخل في حكم وقتهم من المنسأة أو (مثلها) يعني نعيدها، هي نفسها، الى الحكم حين يحين وقتها .. فكأن الآيات التي نسخت انما نسخت لحكم الوقت، فهي مرجأة الى أن يحين حينها .. فإن حان حينها، فقد أصبحت هي صاحبة الوقت، ويكون لها الحكم، وتصبح، بذلك هي الآية المحكمة، وتصير الآيات التي كانت محكمة، في القرن السابع، منسوخة.. فليس النسخ، إذن ،الغاءًا تاماً، وانما هو ارجاء يتحين الحين، ويتوقت الوقت .. والتطوير هذا انما ينظر الى الحكمة وراء النص.. فاذا خدمت اية الفرع التي كانت ناسخة في القرن السابع لآية الاصل ، غرضها حتى استنفدته، واصبحت غير كافية للوقت الجديد، فقد حان الحين، لنسخها هي، وبعث آية الاصل، التي كانت منسوخة في القرن السابع لتكون هي صاحبة الحكم اليوم ، وعليها يقوم التشريع الجديد ..
وايات الأصول هي قمة الدين .. وهي تقوم على تقرير كرامة الانسان ـ علي الحرية ـ ومن ها هنا كانت آيات اسماح .. ومنعت الاكراه منعا باتا .. وهي كثيرة جداً .. ومن امثلتها قوله تعالى: (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي احسن.. ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله، وهو اعلم بالمهتدين).. ومنها (وقل الحق من ربكم!! فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر..).. ومنها: (فذكر!! انما انت مذكر * لست عليهم بمسيطر).. ولما ظهر عمليا ان المجتمع في القرن السابع الميلادي ، لم يكن في مستوى هذه الاصول، نسخت في حقه، وجاءت آيات الفروع التي قامت عليها الشريعة، وهي تقوم على الوصاية، وصاية النبي الكريم على الأمة.. ووصاية المؤمنين علي غير المومنين.. ووصاية الرجال علي النساء .
وبعد التطور الكبير في الحياة، منذ القرن السابع والى اليوم ، استعدت الحياة في الارض، لايات الاصول، بالطاقة بها والحاجة لها .. فاصبحت مشاكل الانسانية المعاصرة لاتجد حلها الا في ايات الاصول هذه، فوجب الاخذ بها عقلا، ودينا .. وفي ذلك يقول تعالى: (واتبعوا أحسن ما انزل اليكم من ربكم ، من قبل ان ياتيكم العذاب بغتة وانتم لاتشعرون)..
وتطوير التشريع ينصب على النصوص، المتعلقة بتنظيم المجتمع ، ولا يشمل الحدود والقصاص، ولا يشمل تشريع العبادات، الا الزكاة ذات المقادير لأنها لم تكن الركن التعبدي الاصلي، والركن التعبدي انما هو زكاة النبي فقد كان ينفق كل ما زاد عن حاجته الحاضرة، وايته من كتاب الله (ويسالونك ماذا ينفقون قل العفو) وقد فسر العفو قولا وعملا ، بما زاد عن حاجته ، ولذلك وجب تطوير التشريع في هذا الجانب حتى يستلهم زكاة النبي الكريم .
من كل ما تقدم ، يتضح ان موضوع ـ العصر الذهبي للاسلام امامنا، يقوم علي اسس متينة من الدين .. من التوحيد، ومن النصوص الدينية المستفيضة من القران والسنة .. والبشارة بهذا الامر ليست بشارة خاصة بالمسلمين ، ولا عموم اصحاب الاديان فحسب، وانما هي بشارة للانسانية جمعاء ، بان عصر كمالها قد أظل.

خالد الحاج عبدالمحمود ـ رفاعة